مقدمة:
سوف أسعى إن شاء الله فى هذا الحديث عن الأزمة المالية والاقتصادية التى اجتاحت ولا تزال تجتاح العالم هذه الأيام أن أتناول موضوعين:
أولاً: ما هى المشكلة فى ظواهرها وخطط الانقاذ لها التى تتخذ الآن وهل تحل المشكلة أم انها تخفف وقع الحدث ثم أتناول أساسيات المشكلة؟.
ثانياً: ماذا يترتب على هذه المشكلة من تداعيات على الفكر الاقتصادى الاسلامى باعباره فكراً وعملاً بديلاً (وخاصة فى المجال المصرفى).
وسيكون التناول لكل محور من هذه المحاور مختصراً وذلك لان الفيصل فيها فى هذا الحيز الزمنى الضيق يكاد يكون مستحيلاً. وثانياً لافسح المجال لاسئلة قد تدور فى أذهان المستمعين لاستجلاء جوانب معينة ربما غمت عليهم أكثر من غيرها فى زحمة الاحداث.
سرد تاريخى:
شهد العالم منذ ستينات القرن التاسع عشر عدة “انهيارات” مالية فى انجلترا – باعتبارها فى ذلك الزمن المركز المالي الأساسي للعالم، ولكن التاريخ الحديث لم يعد يتذكر هذه ثم حدثت أزمات مالية حادة فى اوربا فى بداية القرن العشرين ترتبت عليها الحرب العالمية الأولى.. ثم انتقلت الأزمة الى الشاطئ الآخر من الاطلنطى حيث وقع الانهيار المالى الذى خلف الركود الكبير فى سنوات 1929 – 1933 واستمر تأثيره عشرة أعوام بعد ذلك.
وفى ستينات القرن الماضى وقعت عدة أزمات منها أزمة الديون البولندية ثم أزمات متعددة ومتشابهة فى المكسيك والارجنتين وكندا.. ثم انهيار بورصة لندن فى اكتوبر 1987.. والأزمة الاسيوية التى عصفت ببلدان شرق آسيا فى النصف الثانى من التسعينات وحدث بسببها انهيارات كثيرة فى تايلندا واليابان وكوريا وماليزيا واندونيسيا. وآخر الانهيارات الكبرى ما حدث بعد 11 سبتمبر الشهير فى أمريكا.
فى كل هذه الانهيارات كانت المسببات تختلف ظاهرياً.. أى السبب الذى يفجر الأزمة Trigger Mechanism كان مختلفاً.. ولكنها كانت تشترك فى ظاهرة أساسية تنتهى اليها ومن ثم يبدأ منها الانهيار.. وهى ظهور أو بروز دين Debt كبير يفوق طاقة الاقتصاد أو السوق.. وتتشابه أيضاً فى النتائج التى تتبع ذلك وهو ترسب ركود اقتصادى ينتج عنه هبوط فى الانتاج ثم عطاله كبيرة وقد اعتبرت العطالة أخطر هذه المشاكل.
ولهذا كان أهم المترتبات الفكرية لهذه الانهيارات الاقتصادية هو المحاولة الجادة من قبل المفكر الاقتصادى البريطانى جون بنيارد كينز لمنع النتيجة النهائية وهى البطالة عن طريق تدخل الدولة – لاحظ الدولة وليس الأسواق – تدخلاً واسعاً لخلق طلب تنتج عنه عمالة تامة نتج عن هذا المجهود النظرى الكبير لاصلاح حال الرأسمالية، ظهور نظام عالمى جديد بعد الحرب العالمية الثانية هو ما يعرف بنظام Britton Woods الذى نتج عنه قيام صندوق النقد الدولى (وهدفه منع الاختلالات المالية القصيرة بين الدول والناتجة عن تقلبات سعر تبادل أو صرف العملات والتى تؤثر سلباً فى دول أخرى) والبنك الدولى الذى يتدخل مباشرة نيابة عن “حكومة العالم الجديد” بتقديم موارد مالية لخلق تنمية وانشاء مشاريع ينعكس أثرها على سوق العمل ويساعد بهذا على خلق العمالة
وأردف نظام بريتون وودز لاحقاً بمنظمة التجارة العالمية لمعالجة اختلال عالمى جديد وهو ميلان شروط التجارة لصالح طرف معين (الطرف الأغنى) وظهور نتائج ذلك فى دين (مرة أخرى دين!) العالم الثالث فى السبعينات والذى سعت حكومة العالم لسد ثغرته بزيادة العون فى عقد التنمية الفاشل. وجاءت المحاولة الثانية الجادة لاصلاح فجوات النظام الاقتصادى العالمى بالسعى- عن طريق بازل 1 وبازل 2 لتقوية النظام المالى (المصرفى) العالمى بالتركيز على زيادة ملاءة رؤوس أموال المصارف ولكنها نسيت أمر السيولة اللازمة لهذه المصارف لان المصارف كانت تعتمد على الاستدانة من بعضها وكان يبدو ظاهرياً أنها لا تواجه مشكلة فى هذا الصدد حتى ظهرت المشكلة الحالية وتنبه القائمون على هذه الفجوة وأجلوا معالجتها لحين.. ولكنهم سدوا الفجوة مؤقتاً بتقديم السيولة من الدولة وليس من سوق ما بين المصارف.
ثلاث ملاحظات:
من السرد التاريخى السابق يتضح:
1- أن وقوع مشاكل مالية ينتج عنها مشاكل اقتصادية فى الاقتصاد الحقيقى أى الركود وهبوط الانتاج والعطالة ليس أمراً جديداً.. ولكن عدد المشاكل يزيد وتتكاثر حجماً وتمتد ويتشابك نسبة لظهور ظاهرة الاتصال والتمازج Integration التى أسميت أخيراً بالعولمة.. حتى إذا ظهرت المشكلة فى اقتصاد معين.. انتقلت بسرعة الى الى أماكن أخرى كما وجدت فى جنوب شرق آسيا فى نهاية التسعينات و كما يحدث الآن فى العالم كله بالتدريج.
2- ان السبب فى كل هذه الأزمات واحد.. هو الدين Debt المبالغ فيه والذى لا يبرره النشاط الحقيقى وانما يسنده نشاط مرتبط ومساعد على نمو الدين نفسه.
3- ان التدخل لاصلاح الأوضاع من قبل حكومات أو حكومة العالم كان دائماً هو رد الفعل الاساسى عن طريق اعطاء جرعات مالية اضافية أو جرعات تنظيمية Regulatory عن طريق صندوق النقد الدولى أو شبكات المانحين لتبرير التدخل السياسى [كما حدث فى فلسطين والعراق وافغانستان والسودان] وذلك عندما برزت الى السطح الاشتراطات السياسية Political Conditionalties فى معالجة الاختلالات المالية.. ولعل أبرزها هو معالجة دين العالم الثالث عن طريق آلية ال Hipic (الدول الأكثر مديونية) وهى تدخل انتقائى سلبى ليس باعطاء موارد ولكن باعفاء ديون.
الخلاصة:
أن ما يحدث لاليوم ليس جديداً فى أسبابه أو نتائجه أو فى طريقة معالجته. وأن المعالجات فى كل الأحوال كانت جزئية.. واجرائية لتخفيف وقع المشكلة.. وليس لمعالجة جذورها والدليل على ذلك ان المشكلة أى الانهيارات المالية التى تليها انهيارات اقتصادية ظلت تتكرر – على فترات أقصر – ويزداد حجمها وتأثيرها.
جذور المشكلة وآلياتها:
اتفق كل المعلقين الذين استمعت لهم أو قرأت لهم خلال الاسابيع الأخيرة أن سبب المشكلة باختصار هو “الجشع”!. هذه الكلمة ترددت بكثرة هائلة فى الفترة الأخيرة ولكنها الصقت بقادة النظام المصرفى العالمى (مجلة تايم الامريكية – عدد 29 سبتمبر ظهر غلافها يحمل العنوان: ثمن الجشع The price of greed!) وجشعهم الشخصى وحرصهم على تلقى المكآفات الخرافية. أى ان السبب الحقيقى أيا كان القائمون به هو سبب أخلاقى. لابد ان اردنا الحلول – ان نعود أولاً للاخلاق كدافع اما للافساد أو للاصلاح والكف عن القول ان هذا الأمر – أى ارتباط الاخلاق بالاقتصاد- ليس علمياً!
إذاً فالجشع هو الدافع كما يقال فى علم الجريمة ولكن كيف تتم الجريمة؟ تتم بالاستدانة المتعاظمة والاسترسال فى الاستدانة لتحقيق ربح لا يمكن تحقيقه بالتعامل الاقتصادى أو المالى العادى لان ذلك لا يشبع رغبة الجشعين والساعين لتحقيق أرباح سريعة وهائلة لا يمكن الحصول عليها بتمويل مشاريع حقيقية وانتظار نتائجها .. ولهذا بدأ الانفصال عن الواقع الحقيقى لايجاد عالم مالى له زخم داخلى خاص به.
وما دمنا فى التشبيه بالجريمة علينا أيضاً أن نسأل:
ما هو سلاح الجريمة؟ السلاح هو وجود آلية الربا. فاذا انعدمت هذه الآلية انعدمت القدرة على الاستدانة الهائلة المتعاظمة والسريعة.. وانحصر الدين فقط فى ما يمكن تبادله من اصول مادية مقابل الدين (التجارة بكل أشكالها!) وعاد الدين الى طبيعته التى أرادها له الله سبحانه وتعالى .. لان الدين العادى هو آلية معقولة لانتقال الاصول عبر الزمان والمكان فهو لازم – احياناً- للتجارة وهو فى هذا يدخل فى باب البيع الحلال.. ولهذا قفل باب الربا الذى يخلق هذا الدين الربوى وفتح الباب للدين العادى الذى يخلق النماء عن طريق التبادل مع الاصول (أى التجارة).
فى الحديث المتكرر الذى ييدور هذه الايام فى الغرب لم يصادفنى شئ عن ضرورة اعادة النظر فى مراجعة آلية الدين نفسها وما يقود اليها هو وجود سعر الفائدة.. حتى الذين اتفقوا – بالاجماع – على أن الأزمة أو الانهيار وقع عندما توقفت البنوك عن اقراض بعضها تماماً وان مظهر ذلك كان ارتفاع سعر الفائدة فى سوق ما بين البنوك أو سعر الفائدة الليلية للمدد القصيرة قد ارتفع بصورة جنونية – لعدم وجود العرض – لم يخطر لهم العلاقة الاساسية بين الدين وسعر الفائدة ولم تظهر لهم القاعدة : إذا اختفى سعر الفائدة اختفى الدين (الربوى) ولم يبقى للبنوك من ملجأ إلا ان تلجأ لتسييل أصولها (من أسهم، عقارات، أو تطلب رؤوس أموال جديدة، او تطلب “قروضاً”) من الحكومات أو البنوك المركزية (كما حدث فى كل الحالات التى سمعنا بها..) أى أن تلجأ أو تهبط الى العالم أو الاقتصاد الحقيقى طالبه منه يد العون!!وهو ما يظهر فى شكل تدخل الدولة.
أى أن اتجاهات الحلول التى جرى ويجرى اتخاذها لمعالجة الأزمة هى أولاً إجرائية وثانية.. غير مرتبطة بأس المشكلة فمشكلة الجشع التى أنتجت الدين الهائل الذى أطاح بالأسواق المالية احيلت الى عدة بنوك أو قادة بعض هذه البنوك أو تقاعس بعض السياسيين أو المنظمين Regulators عن كبح جماح الأسواق.
واجراءات الاصلاح التى يروج لها الآن هى:
1) مزيد من الشفافية فى منتجات الدين وأهمها المشتقات derivatives والتى اعترف كبار المنظمين المصرفيين فى العالم أنهم وأن بنوكهم المركزية لا تفهمها (ساعود الى ذلك بعد قليل).
2) مزيد من التنظيم والرقابة وحقيقة الأمر أن الرقابة ظلت تمدد وتشدد ولكن على العالم الثالث!
3) وضع قواعد حسابية جديدة لتقويم الاصول لا تسمح بتضخيمها وبالتالى تضخيم الاستدانة عليها.
4) مكافحة فساد مؤسسات التقييم Rating والتى أصابها فساد خطير رغم انهيار شركات parmalat &Enron &World com وفى هذا الصدد ذكرت أسماء أكبر وكالات التقييم.
5) العودة الى قواعد التسليف المصرفى التقليدى – وهى أعرف عميلك ولا تقرضه أكثر مما لا يمكنه تسديده (فى أمريكا وانجلترا يقرضون أصحاب العقارات 125% و 130% من قيمة عقاراتهم، بينما فى فرنسا والمانيا وبلجيكا وغيرها لا يقرضون أكثر من 50% – 60%) ولهذا السبب جاءات المشكلة من انتقال صكوك الرهن العقارى الامريكية الى محافظ بعض البنوك الكبيرة فى أمريكا ثم أوربا والتى دفعها الجشع لزيادة استثماراتها بشراء هذه “الديون السامة” كما أسماها قانون التدخل الذى اجازه الكونغرس الامريكى Toxic Assets.
6) ضرورة فرض ضوابط على استعمال أموال الضرائب التى استعملت لانقاذ البنوك Bailout money عن طريق تسليفها بربح.. واستعمالها لانعاش الحالة الاقتصادية (التسليف مباشرة لعناصر الاقتصاد الحقيقى من طالبى شراء المنازل والعربات وقروض تشغيل الشركات الصغيرة والمتوسطة).. وعدم صرف ربح لاصحاب رؤوس أموال هذه البنوك Dividend قبل استعادة اموال دافع الضرائب وعدم صرف حوافز لقادة المصارف الذين تصرفوا بعدم مسئولية!وفصلهم. وقد تم فعلاً ابعادهم بسرعة خيالية وأصبحوا كبش فداء للنظام الذى سوف يستمر.
7) ظهرت أصوات محدودة تتحدث عن أسباب جوهرية يجب مراجعتها (كاستعمال النماذج الحسابية) وانه يجب التفكير فى حلول جذرية لان صفحة جديدة بدأت من الرأسمالية ولابد من ايجاد آليات جديدة لها – كما حدث بالنسبة للاقتصاد الكينزى – وظهرت كتابات تطالب بالنظر فى جدوى نظرية الملكية العامة.. واصوات تدعو لمراجعة الخصخصة.. ولعل من غرائب الأمور ان اثنين من ناقدى النظام الحالى والذين ظهرا بشدة هذه الايام كان ينظر لهم بنظرة استغراب وربما ازدراء هما نسيم طالب (بروفسير فى جامعة لندن) ونورى الروبينى (فى جامعة نيويورك) وكلاهما من أصل مسلم.. ولكن لم تظهر بعد أى دعوة من الجانب الغربى أى دعوة لمراجعة جذرية لأسس النظام الرأسمالى، ومن الجانب الاسلامى ظهرت أصوات محدودة تدعو لتقديم البديل الاسلامى الذى يحوى الحل ما بين تطرف الاشتراكية – التى انهارت وبين تطرف الراسمالية التى تنهار الآن. وفى هذا تبسط كبير فى تقديرى. أن الذى حدث هو انهيار كاد ان يقع فى الأسواق المالية – وتم إحتواءه – مؤقتاً – ويتوقع ان يليه كساد فى الاقتصاد الحقيقى تنتج عنه بطالة واسعة ما لم يتم تدارك ذلك (يتوقع حتى الآن أن ينخفض النمو العالمى من 3.7% لعام 2008 الى 2.7% ولكن قد تتغير الصورة الى الأسوأ. أما تكلفة التدخل فقدرت ب 10% من الناتج القومى الاجمالى لامريكا واوربا).
خسارة الاسواق قدرت ب 10 ترليون مطلوب ايجادها. نصف هذا المبلغ حدث فى مصرفين امريكيين فقط هما Fani Mai و Fredic Mac.
أن الأمر فى تقدير هؤلاء المراقبين ومنهم ال IMF ان الأمر لا يدعو للذعر والاضطراب بل القلق الشديد فقط!!.
عود على بدء لقد تم تشخيص المشكلة بانها Too much debt ولكن كيف وصلت بنا فقاعة الدين العالمى (الأمريكى أساساً والأوربى ثانياًالى هذا المنعطف؟).
ارتبطت أزمة النقد Credit Crunch الأخيرة فى أزهان الناس بأزمة الرهن العقارى Sub prime lending أو الرهونات العقاريةالتى ظلت تتفاقم لمدة عام الآن .. وقد بدأت آثارها أولاً فى احتمال سقوط أكبر شركات الرهن العقارى Fredi Mac وfanny Mai فتدخلت الحكومة بدعم رؤوس أموالها ب 200 مليار دولار وظهرت عدة حقائق فسرت نمو الجشع الذى كاد ان يؤدى بها.
فحتى يتقاضى عنها الرقابيون قامت إحدى الشركتين برشوة عدد هائل من أعضاء الكونغرس..وفصل 3 من قادة الشركة الثانية فوراً. كانت الشركتان تسلفان ما يعادل 43 مرة قدر رأسمالها ثم تصكك هذه القروض وتبيعها الى بنوك عالمية داخل وخارج أمريكا عن طريق آلية الخصم Discounting وتنتهى صلتها بهذا الدين لتدخل فى دفاتر من اشتراها. وعندما فشل أصحاب الرهونات (الذين اشتروا منازلهم بقيمة أعلى من الواقع واستدانوا عليها أكبر من قيمتها) جاء وقت الحساب وعلمت البنوك ان هذه ديون مسمومة وأخذت تشطبها تدريجياً من محافظ استثماراتها.. وجاءت بعضها تحت ثقل هذه الديون فبدأت تطلب العون من بنوك أخرى ولكن هذه تخوفت من مد يد العون لها.. وبدأ ال Credit يجف تدريجياً حتى تسارع الأمر منذ يوليو الماضى.. وظهر ما كان مخفياً الى السطح وبدأ التدخل الانتقائى. ثم صار طوفاناً.
لكن السبب الأكبر فى تفاقم أزمة الدين هو وجود المشتقات derivatives وهى أدوات (أوراق أو ديون) مالية تعتمد على قيمة أصول مالية أخرى.. ولهذا فهى منفصلة خطوتين عن الاصول الحقيقية التى يعكسها النشاط الواقعى فى الاقتصادالحقيقى Real Economy (هذه تسميتهم).
نشاط المشتقات بدأ بتجارة العقود المستقبلية والخيارات ومؤشرات البورصات. التى تعتمد بدورها على الاصول الحقيقية.
وكذلك تشمل المشتقات تجارة السندات (القروض التجارية) وأسعار الفائدة واسعار الصرف.. ومبادلة العملات..ومؤشرات أسعار السلع ومؤشرات قياس أسعار المعيشة CPI أو مؤشرات التضخم أو حتى مؤشرات الطقس. ويتم كل ذلك بواسطة نماذج حسابية mathematical Models حلت محل التقدير المصرفى السليم.. حتى أن مجلة New Scienctist ذات السمعة الممتازة كتبت فى عددها الأخير “ان المصرفيين هزمتهم نماذجهم الحسابية”
وحقيقة الأمر أن عقود المشتقات ترتبط ارتباطاً واهياً وعلى بعد خطوتين Two steps back بالاصول. فهى عقود تبيع تقديرات مستقبلية لما قد يحدث لعقود الأصول ولا تبيع أصول ذاتها. ومن ميزات المشتقات بالنسبة للمتاجرين فيها ان حجم التعامل فيها كبير جداً وان سوقها يحدده حجم الطلب عليها وليس حجم عرض معين لسلع محددة ولهذا أصبحت منفذاً جيداً “للجشعين”. أما اخطر ما فيها أن المسئول الاخير الذى يدفع اصل الدين او الالتزام عنها غير واضح (The final obligor) ولهذا تقوم معاملات المشتقات على فرضية انها تنمو باستمرار لان أحداً لا يطالب بها فهى كما سماها معلق اقتصادى كبير كلعبة شركات توظيف الأموال..” فطالما هناك أغبياء جدد فان القدامى سيظلوا يصرفوا ارباحاً وهمية”.
المشكلة أساساً فيما يتعلق بالدين العالمى الذى ناءت به الأسواق المالية هى أن حجم الالتزامات التى خلقتها المشتقات غير معروف على وجه التحديد خاصة وان البنوك تخفيها خارج ميزانياتها.. فقد تراوحت تقديراتها بين 67 ترليون “وليس مليار” دولار (تقدير ال CIA عام 2007) الى 500 ترليون عند بعض مؤسسات البحث العالمية (تزايدت من 100 ترليون عام 2000 الى 500 ترليون عام 2007).
للمقارنة: حجم الناتج الاجمالى للعالم الآن حوالى 67 ترليون دولار.
حجم الناتج القومى الامريكى 13 ترليون دولار والدين الداخلى الامريكى 10 ترليون دولار.
لقد حولت هذه المشتقات الاسواق المالية الى مخلوق اكبر من حجمه ولا تسندها موارد مالية لان التجارة فيها تتم بدفع مارج أو Deposit بسيط ما بين 5 و 10%يتم استلافه من بنوك فصارت المشتقات ككرة الثلج تزداد حجماً وهى تتدحرج أو بتشبيه آخر كالمخلوق الخيالى فرانكشتاين الذى دبت فيه الروح فقتل العالم الذى خلقه.
علاج هذه المشكلة لابد ان يكون علاجاً جذرياً بمنعها تماماً. لقد أعلن حاكم مصرف لبنان المركزى قبل ايام انه بكل بساطة منع البنوك اللبنانية من التعامل فى المستقات قبل 4 سنوات عندما زادت السيولة عندها (ارتفعت فى السنوات العشرة الاخيرة من 8 الى 80 مليار دولار)
فى الغرب يتحدثون الآن عن ضوابط وليس عن منع تام.. رغم آثارها التى ظهرت بارتدادها على الاقتصاد الحقيقى فتؤدى الى هبوط الانتاج والبطالة والافلاسات. كل هذا مقابل ربحية قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد وهو القطاع المصرفى الذى تملكه قلة من الناس بالضرورة! أين العدالة فى هذا؟.
2- أثر الازمة على الفكر الاقتصادي الاسلامى؟
من الاستعراض السابق نستطيع ان نستنتج الآتى:
1) اولاً ان السبب فى الازمة اخلاقى. وبالنسبة لنا فى الفكر الاسلامى هناك مسوغ اساسى للتدخل لللجم وكبح جماح الاستعمال غير الاخلاقى للاموال فى غير ما شرعه الله وبعض طرق الاستعمال المشروعة والخالية من المغشى والتدليس والغرر والجهالة (المشتقات فيها غرر اساسى وهو انها تبيع المستقبل!) ذلك ان المال فى الاسلام هو مال الله .. والآخرين (مدراء بنوك – بنوك مركزية – حكومات) هم مستخلفين فيه.. ولهذا فان مسوغ التدخل موجود ومقبول ولا يحتاج لتشديد رقابة).
2) مقتضى العدالة ان يستوى فى المخاطرة الطرفان رأس المال والعمل.. وليس احداهما وهذا هو عقد التعامل الرئيسى فى النظام التمويلى الاسلامى والمعروف بعقد المضاربة الشرعية وما يجرى به العمل فى العالم الرأسمالى يجب ان يتعدل اساساً لاحقاق العدالة الطبيعية وهى ان يتحمل طرفا التعامل الخسارة اذا تمت بغير تعدٍ او تقصير.
3) ان الديون الربوية التى لا تسندها اصول هى أسس البلاء. أما الدين الذى تتوسطه أصول فهو مسموح به بضوابط شديده وهذا يفسر لماذا التشديد فى البيع ان يكون ظاهراً (الشفافية) وفى المجلس (يداً بيد بين وهاء بهاء) الا ان تكون تجاره غير حاضرة ترتضوها فهذه يسرى عليها ترتيب ايه الدين.
4) بيع الدين محرم بالاجماع الا ان يكون بنفس قيمته أى بدون خصم ولهذا يستحيل نقله (بعد تصكيكه) الى آخرين إذ لا فائدة لهم فى ذلك طالما لم يحصلوا عليه بقيمة مخفضة.
5) ان بيع ما لا تملك ممنوع تماماً ولهذا بستحيل ان تبيع ديون (حتى بمثل ثمنها) الا اذا تملكها أولاً .. ولهذا لجأت بلاد عديدة الآن لمنع البيع قصير الأجل والشراء طويل الأجل وهو ما شجع المضاربة فى الديون وخرب الاسواق والذمم وأدى الى أن يضخم المتأجرون سوق المشتقات الى هذا الحجم الغريب.
6) ان الدين الربوى لا تقوم له قائمة اذا اختفى سعر الفائدة [الربا] فانهاء أو الغاء الربا هو الحل الجذرى لانهاء الديون الربوية.. ولعل هذه هى بعض حكمة تحريم الربا.
7) ان مفهوم النظرة الى ميسرة – التعامل الاخلاقى مع الزمن اساسى لتنظيم التعامل المصرفى الاسلامى.. فاذا كان الركود والافلاس Insolvency وغيرها ترسيها مفاهيم حسلبية محددة وضعها بشر.. وهدفها هو حماية طرف واحد – الطرف الدائن) فان مفهومنا للزمن غير ذلك.. والذى يولد الزعر هو معرفة ان حكم اعدام ينتظر هذا البنك او تلك الدولة اذا وصل يوم الحساب (نهاية الربع الثانى او الثالثحسب القواعد المحاسبية المفروضة) دون سداد.. اما اذا تم التقيد بالضابط الاخلاقى [النظره الى ميسره] فان الأمر سيتغير تماماً ويختفى الزعر الذى يهبط بالاسواق المالية ثم بالحركة الاقتصادية دونما مبرر.
8) ان اختصار كل التعاملات فى آلية حسابية واحدة (سعر الفائدة) هو خطا جسيم فكل عملية او منشط يعامل بآلية مختلفة من آليات قسمة الربح فى سوق المتجات الاسلامية التى تتدرج من القرض الحسن (بدون أى تكلفة تمويل لطالب المال، كما ينبغى عليه الحال فى التمويل الأصغر) الى قسمة الارباح باى نسبة يتم التراضى عليها.فى حالات المضاربة والمشاركة وعقود قسمة الانتاج فى الزراعة كالمزارعة والمساقاه ولهذا كان التعامل الرئيسى فى التمويل الاسلامى هو عقد المضاربة وتفريعاته وتنوعاته أما عقد المرابحة والايجارة والبيع الاجل التى يظهر لها هامش ربح محدد فانها تنتج ديوناً تجارية لانها تبدل سلعاً أو خدمات بنقود فى حدود قيمتها الحقيقية زائداً هامش الربح ويتم ذلك بشفافية تامة.
9) ان الممول فى الاقتصاد الاسلامى عن طريق المضاربة هو الخاسر لماله اذا فشل العمل عن تعد أو تقصير ولهذا فانه يمول بمسئولية كبيرة.. وبحرص تام، عكس ما يحدث فى النظام الرأسمالى الذى يشجع على تعظيم الربح دون أى اعتبار اخلاقى او عملى طالما ان الربح سيكون له- وكذلك الحوافز- ويبوء العميل بالدين.
10) أن ضمان الودائع – الذى لجأت اليه الدول أخيراً لتهيئة الأسواق لا ينشأ فى الظروف العادية لان الودائع فى النظام المصرفى الاسلامى غير مضمونة ويعرف هذا تماماً المودع عند فتح حساب الوديعة. ولكن يجوز لطرف ثالث – الدولة – ان تتبرع بالضمان فى حدود وشروط. ولهذا فان هذا الاجراء الذى اتخذ فى بداية الأزمة زاد الزعر فى الواقع ولهذا حاكته كل الدول.
مما سبق يتضح تماماً بالمقابلة ان اساسيات واليات الفقه الشرعى تمنع بالضرورة حدوث او وقوع هذه الأزمة. وان النظام المصرفى الاسلامى حقيقة هو البديل للنظام الراسمالى المريض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين