يبدأ الابتزاز دائما باستدراج الشاب للفتاة لاقامة علاقة عاطفية، وبعد فترة من العلاقة، قد تطول أو تقصر، يكون في الغالب جمع حصيلة كبيرة من الصور وافلام الفيديو والمكالمات الهاتفية المسجلة، وفي حال وقوع أي خلاف أو رفض الشابة لبعض طلباته يبدأ بتهديدها بما جمعه.
ما من قضية تشغل بال السعوديين هذه الايام اكثر من قضية «الابتزاز»، التي يبدو انها جنحت في الآونة الأخيرة الى منحى اكثر خطورة وتزايدت وتيرتها بشكل عنيف، على الرغم من ان ظهورها في المجتمع لم يمر عليه اكثر من سنوات معدودة.
تزايد مشكلات الابتزاز في المجتمع السعودي دفع الكثير من الفعاليات الثقافية والاجتماعية الى التنديد بالظاهرة واتساعها في مجتمع، كالمجتمع السعودي، كان الى سنوات قليلة لا يعرف هذه الظاهرة عدا حالات قليلة نادرة لا يعتد بها.
«الابتزاز» يصنف عند القانونيين كجريمة اخلاقية تعني حصول شخص ما على معلومات أو صور (هي الشكل الغالب) تتعلق بشخصية اخرى، ويبدأ في تهديده بنشر هذه الصور أو المعلومات ما لم يرضخ لطلبات معينة تتعلق في الأغلب بالمال أو ممارسات غير اخلاقية. وتعد الفتيات اللائي في سنوات المراهقة وما بعدها بقليل الاكثر وقوعا في براثن هذه الإشكالية، مع ان احصائيات ومعلومات نشرت خلال الفترة الماضية تبين ان هناك سيدات متزوجات وناضجات في السعودية كن ايضا ضمن ضحايا الابتزاز، اضافة الى حالات نادرة وقع فيها رجال تحت تهديد الابتزاز.
مساواة بين الضحية والجاني
والطريقة الغالبة حتى الآن التي يتم بها الابتزاز هي الصور الشخصية ومقاطع الفيديو التي تختلف طرق الحصول عليها، وهذا الاختلاف يحكم في اكثر الاحيان ما اذا كان الطرف المُبتز هو مخطئ في الاساس ام لا، كما يحكم ذلك ايضا نوع المعلومات والصور التي يتم بها الابتزاز.
فعندما يتبين ان الضحية تبتز بصور غير لائقة أو انها صورت في اوضاع مخلة بالادب والذوق العام، نتيجة لعلاقة غير شرعية جمعتها في وقت سابق مع الطرف الذي يقوم بعملية الابتزاز، يساوي المجتمع في احكامه بين الضحية والجاني، اما اذا كانت هناك صور شخصية عادية لفتاة (دون حجاب مثلا أو في ثيابها المنزلية) داخل الموبايل مثلا واستولى عليها الجاني نتيجة فقدان الموبايل أو سرقته، واصبح يهددها بها، فان المعاملة أو النظرة الى الضحية هنا تختلف كثيرا عن الاولى، فهي في هذا المثال ضحية حقيقة، ولم يكن الفعل الذي تهدد بكشفه فعلا شائنا. والجاني هنا يكون مذنبا مرتين بحقها، فهو أولا تعدى على خصوصيتها، وثانيا ابتزها بها.
لجنة خاصة لدراسة الظاهرة
هذه الظاهرة كانت غير معروفة في المجتمع السعودي الى سنوات قليلة الى الوراء، واستغرب المتابعون كثيرا عندما تم الاعلان قبل شهر عن قيام هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بايقاف حالة ابتزاز تعرضت لها فتاة على مدى 14 عاما. ففي السنوات التي توافق هذا التاريخ كانت الوسائل التي تتم بها حالات الابتزاز الآن، مثل الجوال المزود بكاميرا واجهزة تسجيل الفيديو صغيرة الحجم التي يمكن اخفاؤها عن الضحية، كانت غير موجودة، اذ لم تظهر الا في السنوات الثماني الاخيرة، وهذه الحادثة المشار اليها -آنفا- ولدت العديد من الاسئلة، مثل: هل كانت هناك وسائل قديمة كانت تستعمل في عمليات الابتزاز ولم تكشف في حينها لمحدودية الظاهرة وعدم انتشارها؟
وزارة الداخلية السعودية، في اشارة منها الى تزايد الظاهرة في المجتمع، أعلنت قبل اشهر انها كونت لجنة خاصة بدراسة الابتزاز في المملكة، ومدى انتشاره في المناطق المختلفة، واساليبه وطرقه المختلفة حتى تضع يدها على انسب السبل لمكافحة هذه الاشكالية (الاخلاقية).
لغز انتشار الابتزاز
وعلى صعيد متصل، بدأ بعض الاختصاصيين الاجتماعيين وعلماء علم النفس السعوديين يحاولون الاسهام في فك لغز الابتزاز، ولماذا انتشر في هذه الاونة تحديدا.
وفيما ارجع بعضهم الظاهرة الى التوسع في استخدام الوسائل التقنية بطريقة سلبية، ذهب البعض الآخر الى ان التساهل في نسج العلاقات غير الشرعية هو من قاد اشكالية الابتزاز الى الظهور، باعتبار انه لولا الممارسات السلبية وغير الاخلاقية التي تحدث من قبل بعض الفتيات والسيدات، لما وجد الشباب الذين يقومون بعملية الابتزاز، طريقا الى هؤلاء الفتيات والقيام بابتزازهن.
وبحسب ما يتضح من اعترافات بعض الفتيات اللائي وقعن في الابتزاز، فان البداية دائما ما تكون في شكل استدراج لاقامة علاقة عاطفية، ويستخدم الشباب في هذه الحالة كل اساليب الاقناع والاحتيال و«معسول الكلام» حتى تنقاد الفتاة أو السيدة اليهم. وبعد فترة من العلاقة، قد تطول أو تقصر، يكون الشاب في الغالب جمع حصيلة كبيرة من الصور وافلام الفيديو والمكالمات الهاتفية المسجلة، وفي حال وقوع أي خلاف أو رفض الشابة لبعض طلباته يبدأ في تهديدها بما جمعه طيلة الفترات السابقة.
وهنا تكون الفتاة امام امرين: اما ان تنساق له أو ترفض، ومن ثم يقوم الشاب بتنفيذ تهديده الذي يتمثل دائما اما في نشر الصور والمكالمات عبر الانترنت، أو تسليم ما لديه إلى أسرة الفتاة بطريقة أو باخرى حتى يفضحها امام اهلها.
مبدأ «الستر»
وما اتضح من غالبية جرائم الابتزاز التي اكتشفت فان نسبة كبيرة من الفتيات ينصعن إلى الطرف المبتز تفاديا للفضيحة، ولا يقمن بتبليغ الجهات المختصة الا بعد مرور فترات طويلة على واقعة الابتزاز، تكون الفتاة خلالها استنزفت كل ما لديها من اموال أو غيره، وهي هنا لا يكون لديها مخرج سوى التبليغ لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي من جانبها تحاول في مثل هذه الوقائع انهاء المشكلة بنصب كمين للطرف المبتز بواسطة الفتاة.
وهذا يتم تحت غطاء من السرية الشديدة، ولا يعلم أي طرف بها، حتى أهل الفتاة، تماشيا مع مبدأ «الستر» الذي تأخذ به الهيئة في مثل هذه المواقف. لكنها (أي الهيئة) تقوم بنصح الفتاة وارشادها الى الطريق الصحيح، وتوضيح خطئها الذي اوقعها في ايدي الشخص المبتز.
أبعاد غير واضحة
وحتى اللحظة لا تملك جهة معينة احصائية معينة بعدد حالات الابتزاز في السعودية، حيث ان مبدأ «الستر» الذي تعمل به هيئة الامر بالمعروف قد يكون احد العوامل التي تجعل من الاحاطة الكاملة بابعاد هذه المشكلة غير واضحة تماما، لكن هناك اجماعا تاما بان الظاهرة تشهد تناميا كبيرا مع الاستخدام الواسع للاجهزة الالكترونية الدقيقة.
ويرى بعض الاجتماعيين ان ظاهرة الابتزاز، برغم انها في حد ذاتها جريمة، فانها تكشف عن انماط اخرى من التجاوزات الاخلاقية التي تحدث في الخفاء ولم يكن المجتمع أو اولياء الامور على اطلاع بها، حتى جاءت عمليات الابتزاز التي هي عبارة عن توثيق للتجاوزات الاخلاقية التي تحدث بين الفتيات والفتيان في غياب الوازع الديني والاخلاقي.
:
أطراف «الابتزاز» كلهم يستحقون العقاب
عندما سألنا المستشارة الاجتماعية د. نورة العجلان عن ظاهرة الابتزاز في المجتمع السعودي، اكدت في ردها ان المشكلة باتت مؤرقة بالفعل، وما لم يتدارك الامر فانها قد تتفاقم في المستقبل، خاصة مع ازدياد اعداد المستخدمين للوسائل التقنية، ودخول اجيال جديدة من الكاميرات والموبايلات الحديثة الى الاسواق السعودية.
ورأت انه من الصعوبة تحديد مدى انتشار ظاهرة الابتزاز، لكنها منتشرة، وقالت ان ما يصل الى هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحالات المستعصية فقط من حالات الابتزاز (وهذا اكبر دليل على انتشارها) باعتبار ان الحالات التي يبلغ عنها اصبحت متزايدة.
واعتبرت العجلان ان كلا من طرفي الجريمة (الشاب الذي يقوم بالابتزاز والفتاة التي يبتزها) شريكان في القضية، خاصة اذا كانت المعلومات التي يبتز بواسطتها الشاب فيها تجاوزات اخلاقية من الطرف الآخر.
واوضحت ان الابتزاز يتطور كلما تطورت الوسائل التقنية، وهنا تكمن المشكلة، لانها قد تنتشر بشكل اكبر في السنوات القادمة بحكم التقدم المستمر في وسائل التقنية.
إصدار قانون يحدد عقوبته سيحد منه
نبه المستشار القانوني السعودي الدكتور علي السويلم الى ضرورة وضع تشريعات جديدة تتلاءم مع ما نتج من الاستخدام السلبي للتقنية من جرائم مثل الابتزاز والتجاوزات الالكترونية، مؤكدا خطورة الوضع، وان «ما خفي في هذه الجرائم هو اعظم مما اعلن».
وقال: “إن الاسراع في إصدار قوانين تجرم هذه التجاوزات يمكن ان يحد قليلا من ارتكابها، خاصة اذا جاءت العقوبات واضحة وقوية ومتناسبة مع حجم الضرر الذي يقع على الطرف الذي يتعرض للابتزاز”.
واشار في تصريح له ان المجتمع يعاني ظاهرة الابتزاز منذ اكثر من عامين، ومع ذلك لم تصدر تشريعات تقول ان هذا الجرم يعاقب بعقوبة معينة، مؤكدا ان تحديد عقوبة بذاتها على جرم الابتزاز ستحد من انتشارها، كما لفت في هذا الصدد الى اهمية تعريف المجتمع بالمستوى الذي وصلت اليه الظاهرة حتى الآن، قائلا ان مبدأ التغطية والتستر الذي يعمل به البعض قد لا يكون مناسبا هنا، وانه من الانسب ان يكون المجتمع على علم تام بالظواهر الجديدة التي تطرأ على نسيجه.