"حضرة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. هل ترى هذه الأشجار.. لقد عاش آبائي وأجدادي مئات السنين على ثمارها. ونحن مستعدون أن نعود للخيام ونعيش مثلهم، ونستغني عن البترول، إذا استمر الأقوياء وأنتم في طليعتهم في مساعدة عدونا علينا"… إن قال هذه العبارة مواطن عربي.. فهو مجنون، أما أن يقولها حاكم عربي لأغنى دولة بترولية، فإنه يجب أن يموت، وقد قالها الملك فيصل قبل أشهر معدودة من اغتياله بيد أمير سعودي مختل.
حفل التاريخ بقصص أصحاب الثورات والحركات الذين فازوا بحكم بلادهم، ولكن أن يسعى الملك والحكم إلى أحد، فهذا هو القليل النادر، ومن ثم أقر الأولون مبدأ أن الشاذ لا قاعدة له، ولهذا كان الملك "فيصل بن عبد العزيز" خارج نطاق القواعد المألوفة، فقد كان ممن يصنعون الأحداث، وإن سبقته أسرع وأمسك بزمامها يوجهها، لا يتوجه بها. فمن هو؟
مولده ونشأته
هو "فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود"، ولد بمدينة الرياض في صفر سنة 1324هـ/إبريل 1906، وكان يوم مولده هو يوم انتصار والده في معركة "روضة الهنا"، وهي إحدى أهم المعارك في سبيل بناء الدولة السعودية، تلقى العلوم الشرعية على يد مدرسين أكفاء، وعلى رأسهم جده الشيخ "عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ"، وأتم حفظه القرآن وهو دون الثالثة عشرة من عمره، وبرع في الفروسية واستعمال السلاح منذ صباه.
وقد اشترك في المعارك مع والده وهو ابن 13 عامًا، وبعد ذلك بثلاث سنوات قاد حصارًا لمدة 3 شهور حول "حائل" حتى استسلمت، ثم وهو ابن عشرين عامًا قاد جيشًا لقمع تمرد بعض القبائل العربية اليمنية، وأراد –وكان يملك القوة والقدرة- اقتحام مدينة صنعاء، ولكن والده وافق على الصلح، وهدد الشاب والده بالانتحار إن وافق على هذا الصلح، وكان رد والده "يحزنني أن أفقد ولدًا من أولادي، ولكن الحياة علمتني أن تسامح الأخ مع أخيه هو أكبر قيمة من انتصار المدافع والسيوف"، وخضع الأمير الشاب، وكان درسًا صنع من الشاب رجلاً جديدًا. ودفع الوالد بابنه إلى حقل السياسة الخارجية، ليرى ويتعلم كيف تسير أمور العالم.
فيصل وزيرًا للخارجية
كانت رحلته ومهمته الأولى إلى إنجلترا. وفي اليوم التالي لوصوله غادر البلاد فورًا إلى باريس، وكان ذلك بسبب تصرف اللورد "كرزون" الذي أمر بتقديم حلوى للطفل القادم من الصحراء، وأسرعت السلطات البريطانية بالاعتذار للأمير الشاب، وبدأ الأمير يناقش وضع السعودية والعرب مع الحكومة الإنجليزية، ومن ثم عرفت الحكومة البريطانية أنها في مواجهة رجل يمثل أمة، والتقى والملك والملكة البريطانيين، وعاد لبلاده بعد جولة أوروبية واسعة، وبعد قليل عاد إلى بريطانيا ليعقد معاهدة جديدة بين بلاده وبريطانيا (عام 1927م) تعترف بموجبها بريطانيا بسيطرة بلاده على كافة أراضي الجزيرة العربية (تقريبًا) باستثناء المحميات الخليجية والجنوبية.
وتعددت رحلات الشاب إلى بلاد العالم المختلفة، شرقية وغربية، ورغم تعدد المهام الخارجية، فإن ذلك لم يمنع من المشاركة العسكرية في بناء وتأمين الدولة الوليدة، وقد صدر له قرار رسمي بتولي وزارة الخارجية في عام 1319هـ/1930م، وبعدها قاد عدة معارك في "عسير" و"تهامة" و"نجران"، ومن قلب المعارك إلى لندن –بأمر من والده- ليشارك في مؤتمر فلسطين عام 1939م ويستطيع فيصل أن يستخدم ورقة البترول بصورة أجبرت بريطانيا أن تعطي وعدًا رسميًا بألا تسمح لليهود بإنشاء دولة لهم في فلسطين، ولكن من يستطيع أن يلزم بريطانيا بوعد.
وتولى فيصل عدة مهام بجانب الخارجية، فقد عينه والده حاكمًا لمنطقة الحجاز، كما مثَّل السعودية في اجتماعات تأسيس الأمم المتحدة، واستطاع أن ينهي عدة مشاكل حدودية لبلاده، حتى شهد له عدد من الرؤساء والملوك أن عقليته وكفاءته تؤهله ليكون وزير خارجية قوة عظمى.
الطريق إلى العرش
تُوفي مؤسس الدولة السعودية الملك "عبد العزيز آل سعود" في ربيع الأول 1373هـ/نوفمبر 1953م، وتولى الأمر الابن الأكبر "سعود"، وذلك وفقًا لنظام الدولة، ولكنه –أي الملك سعود- وافق أن يتخلى لأخيه الفيصل من رئاسة مجلس الوزراء، وذلك كان بنصيحة من العلماء والأمراء.
وقد وجد فيصل الدولة تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، فبلاده تعاني من ديون طائلة لشركات البترول، ونظام العلاوات النفطية لأمراء البلاد (300 أمير)، والبذخ في الإنفاق على الدور والقصور يجفف موارد الدولة، وذلك على الرغم أن مواردها ليست بالقليلة، ولم يستطع فيصل إصلاح الأمر، وذلك بسبب تدخل الملك في شئون الحكم باستمرار.
وقد وصل الأمر بالملك أن حاصر بقوات عسكرية قصر فيصل، ووجه فوهات المدافع على القصر، فما كان منه (فيصل) إلا أنه نزل إلى هذه القوات بسيارته ـ رغم تحذير حاشيته له، وما إن وصل عندها حتى اصطف الجميع لأداء التحية العسكرية، ومثل هذه التصرفات دفعت الأمراء لاقتحام قصر الملك، وأجبرته على التنازل عن كافة سلطاته لفيصل (وقد أخبره أن فيصل رفض أن يقوم بعزله وتوليته) وذلك في عام 1958، ولكن الأمراء عام 1964 أجبروا الملك سعود على التنازل تمامًا عن العرش، وصار فيصل بن عبد العزيز ملكًا على السعودية.
الإصلاحات الداخلية
إن أهم محور في الإصلاح الداخلي هو بناء الكرامة الإنسانية لكل إنسان على أرض السعودية؛ ولذلك ألغى بروتوكول تقبيل يد الملك من نظام المراسم السعودية، وألغى "نظام الرق" في السعودية، وأعتق كافة العبيد في السعودية ومنحهم الجنسية السعودية، وقام بتقديم تعويضات لكافة المتضررين من هذا الإلغاء بلغت 60 مليون ريال.
إصلاح الحالة المالية، لرفع "ذل" الدين عن السعودية، وكانت الدولة عند توليه مدينة لشركات البترول بأكثر من 2000 مليون ريال، وكان يوجد في خزانة الدولة 317 ريالاً فقط؛ لذلك وضع عدة نظم للإصلاح المالي، على رأسها تحرير الريال السعودي من سيطرة الدولار الأمريكي، ودون أن نشرح تفاصيل الإصلاحات يكفي أن نعرف أن ميزانية السعودية في عام 74/1975 كانت 22.810.000.000 ريال.
أدرك الملك فيصل أن الأساس الذي يجب بناؤه لأي نهضة حقيقية هو العلم والتعليم، فكان اجتهاده في هذا الميدان غير مسبوق، إذ شكّل أول هيئة عليا للتعليم، ورصد للتعليم أكبر نصيب في ميزانية الدولة، ووضع قواعد لنشر التعليم بحيث لا يكون كما بلا كيف، فانتشرت مدارس التعليم البنين والبنات، ثم أسس الجامعات ودور البحث العلمي.
بدأ في نشر العمران في كافة أرجاء الدولة، مع توفير كافة الخدمات والمرافق اللازمة للحياة من شبكة طرق، وشبكة كهرباء، وشبكة مياه شرب وصرف صحي، واتصالات.
بدأ في تطوير أشكال الإعلام؛ فأنشأ أضخم شبكة إذاعة وتليفزيون، ومحطات للاتصال بالأقمار الصناعية.
بدأ في وضع أسس تطوير البلاد في اتجاه الزراعة والصناعة ووضع أسس شبكة محطات التوليد لطاقة اللازمة لهذا الغرض، وأسس الصناعات البتروكيماوية، والحديد والصلب، والأسمنت، والتعدين.
هذا بخلاف الخدمات الاجتماعية المختلفة في مجال رعاية المواطنين الصحية والثقافية والدينية وغير ذلك.
السياسة الخارجية
كان محور السياسية الخارجية هو: الإسلام وقضايا المسلمين؛ لذلك:
أعد سفارة سعودية متجولة، وهو وفد من عدد من الشخصيات الإسلامية، على رأسها الشيخ "محمد محمود الصراف"، تطوف في أكثر من 30 دولة إفريقية وآسيوية، وذلك لفتح أبواب النشاط الإسلامي وتحسين أوضاع المسلمين، وقد أثمرت السفارة بشكل كبير؛ إذ أشهر ـ بسببها ـ رئيس الجابون إسلامه وصار اسمه "عمر" بعد أن كان جوزيف، وتحسنت أوضاع المسلمين في كثير من الدول، ثم قام الملك فيصل بعدة جولات لنفس الغرض، واستطاع أن يؤثر في القيادة السوفيتية بحيث سمحت للمسلمين بقدر من الحرية في ممارسة شعائر دينهم والخروج للحج.
كان يعمل على الرد على كافة الشبهات التي يثيرها المستشرقون في اجتماعاتهم وندواتهم، وعقد مؤتمرات في معاقلهم للرد على افتراءاتهم.
الدعم المساوي لكافة المؤسسات الإسلامية التعليمية والخيرية في العالم الإسلامي.
تأسيس مؤسسات إسلامية عالمية للدعوة الإسلامية، مثل: "رابطة العالم الإسلامي".
العمل من أجل التضامن الإسلامي في مواجهة كافة الأخطار، سواء الشرقية (الاتحاد السوفيتي في هذا الوقت) أو الغربية أو المؤامرات الصهيونية، أو الدعوات والمذاهب المناقضة للإسلام.
دعم حركة المقاومة الفلسطينية دعمًا ماديًا، وسياسيًا، وكان هدفًا أساسيًا في حركة الملك فيصل على النطاق الآسيوي والأفريقي أن يعمل على حشد التأييد للحق الفلسطيني وقطع الاتصال مع الكيان الصهيوني.
دعم دول المواجهة، وفي هذا النطاق، قام بتعويض مصر عن كل خسارتها في سلاح الطيران بعد حرب 1973، وكان له موقف في أعقاب هزيمة 1967 من حشد للتأييد والتعاون من أجل إعادة بناء القوات المسلحة في دول المواجهة.
كان هو بطل معركة الحظر البترولي عن الدول المساندة لإسرائيل في أثناء حرب 1973، وعلى الرغم من التحذيرات الغربية والأمريكية فكان له موقف مشهود، أثمر تغيرًا في توجهات كثير من الدول الغربية، وكان يكرر مقولته التي بدأنا بها هذه السطور لكافة المسئولين الغربيين.
عندما هددت الدول الغربية باستخدام القوة للسيطرة على منابع البترول، ردد "ماذا يخيفنا؟ هل نخشى الموت؟ وهل هناك موت أفضل وأكرم من أن يموت الإنسان مجاهدًا في سبيل الله؟ أسأل الله سبحانه أن يكتب لي الموت شهيدًا في سبيل الله.
وفي صباح الثلاثاء الموافق 12 ربيع الأول (ذكرى مولد رسول الله)1395 هـ، 25 مارس 1975م، دخل على الملك أحد أبناء عمومته، وكان بابه مفتوحًا للقريب والبعيد، فدخل الأمير "فيصل بن مساعد بن عبد العزيز"، وكان معروفًا عنه اختلال العقل، ومعاقرة الخمر، فأطلق عدة رصاصات على الملك فيصل، فمات متأثرًا بجراحه