تحولت الجزائر خلال شهر جويلية من عام 2009 إلى عاصمة للثقافة الإفريقية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ عبر المهرجان الثقافي الإفريقي الذي عاد إليها بعد 40 عاما من الغياب ، وهو الحلم الذي تجسد بفضل إرادة الدولة في استرجاع هذا الموعد الإفريقي لتفتح أبوابها مشرعة لـ 51 دولة افريقية سجلت مشاركتها في التظاهرة حيث تزينت شوارع العاصمة بالألوان الإفريقية وعاش الجمهور ا المتعطش للفن والثقافة أجمل اللحظات بفضل البرنامج الثري الذي نظم في إطار المهرجان.
وعاشت مختلف الساحات العمومية وقاعات الحفلات والمسارح الجزائرية في العاصمة وغيرها من المدن على وقع الفعاليات المتنوعة والتي أدخلت البهجة والسرور في نفوس الجماهير المتعطشة للفن والثقافة.
ملتقى حول القارة الإفريقية والاستعمار
“الاستعمار وحركات التحرر في إفريقيا “هو عنوان الملتقى الذي نظم بمناسبة التظاهرة بمشاركة باحثين ومؤرخين وكان الملتقى الذي حمل شعار “إفريقيا التجديد والنهضة” فرصة للمشاركين لإبراز الثقافة الإفريقية وتراثها الضارب في أعماق التاريخ.
كما شكل فرصة لتوطيد أواصر الأخوة والصداقة بين هؤلاء الشباب والتعريف بالقيم والتقاليد المختلفة والثرية لحضارة القارة الإفريقية.
وقد أكدت وزيرة الثقافة خليدة تومي لدى إشرافها على افتتاح الملتقى أنه لا يمكن الحديث عن استقلال إفريقيا طالما ما زالت الصحراء الغربية تحت وطأة الاستعمار.
وأضافت قائلة : “كانت إفريقيا القارة الأكثر تضررا من الاحتلال ومن حقنا أن نتكلم عن الاحتلال ومخلفاته”.
وتميزت أشغال الجلسة الأولى من الملتقى والتي ترأستها المجاهدة زهرة ظريف بيطاط بتدخل كل من المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس ووزيرة الثقافة المالية السابقة أميناتو تراوري وسليم أحمد سليم الأمين العام السابق لاتحاد منظمة الوحدة الإفريقية ، حيث تحدثت أميناتو تراوري بكثير من الحماس عن “معاناة القارة الإفريقية التي سلبت ونهبت في إطار تنمية مشوهة “.
وأضافت: ” يجب أن نتذكر اليوم أن هناك رجالا ونساء قاوموا ودفعوا أرواحهم من أجل تحقيق عالم أفضل ، نحن لم نتمكن من الإتحاد فيما بيننا لمواجهة عدونا المشترك رغم أن هناك محاولات من طرف بعض الدول الإفريقية”.
وشددت تراوري على ضرورة مواجهة مختلف أشكال الاستعباد، ومن ذلك هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات وسيطرتها على ثروات القارة الإفريقية والتي تلعب دور الحكم وتطلب من شعوب إفريقيا السهر على مصالحها.
وذكر الأمين العام السابق لمنظمة الوحدة الإفريقية سليم أحمد سليم بجهود الجزائر في مساندة الشعوب في قضاياها العادلة.
وقال إنه:” على الباحثين أن يراجعوا الأضرار التي خلفتها الفترة الاستعمارية، وتحدث المحامي جاك فيرجيس عن مختلف الجرائم التي ارتكبها وما زال يرتكبها الغرب في حق الشعوب ، وأعاب على المحكمة الجنائية إصدارها لمذكرة توقيف في حق الرئيس السوداني عمر البشير.
وأضاف فيرجيس قائلا: “لماذا التردد والخوف من إدانة جرائم الإسرائيليين في غزة وما يحدث في العراق..نحن بحاجة إلى الجرأة كي تنتصر العدالة لأن الغرب لايتخلى عن الهيمنة على الشعوب الإفريقية بكل الوسائل الممكنة”.
وتواصلت أشغال الملتقى على مدى أربعة أيام عمل فيها المشاركون على مناقشة المشروع الاستعماري ومقاومات التحرر في إفريقيا : من الدخول الإمبريالي وهيمنته إلى عمليات الاستقلال الوطنية ، بداية من مرحلة السيطرة المركانتيلية التي استمرت من القرن السابع عشر لتجعل من إفريقيا إحدى الأقطاب الأساسية للتجارة المحاور والاتجار بالعبيد وحتى مرحلة مقاومات التحرير وظهور الدول الوطنية الأولى مرورا بمرحلة اقتسام الأراضي الذي مثل فيه مؤتمر برلين سنة 1885 لحظة على جانب كبير من الأهمية ، ثم مرحلة تعزيز النظام الاستعماري والذي تعرض للزعزعة وظهور الحركات التحررية.
مداخلات ونقاش حول واقع وتحديات السينما الإفريقية
نظم بفندق الأوراسي وفي إطار فعاليات المهرجان ملتقى دولي حول السينما الإفريقية بحضور مخرجين و سينمائيين جزائريين و أفارقة،وفي كلمتها الافتتاحية أكدت وزيرة الثقافة خليدة تومي على أهمية المهرجان الذي يتم من خلاله مناقشة واقع السينما الإفريقية وأهم التحديات التي تواجهها ، مشيرة إلى اهتمام الجزائر بدعم السينما الإفريقية.
وفي هذا الصدد أشارت تومي إلى إنشاء صندوق لدعم الإنتاج المشترك الإفريقي وإلى الاتفاق الذي أبرمته مع نظيرتها الجنوب افريقية والمتعلق بالإنتاج المشترك بين الجزائر وجنوب إفريقيا،و أعلن السينمائي جونسون تراوري عضو لجنة التحكيم عن أسماء كتاب السيناريو الذين تم اختيارهم للاستفادة من تمويل يمكنهم من انجاز أفلامهم و يتعلق الأمر بأربعة أفلام قصيرة وأربعة أفلام أخرى طويلة حول علم الخيال إضافة إلى 2 سيناريو اختارتهما لجنة التحكيم التي يرأسها الناقد السينمائي الجزائري أحمد بجاوي.
وقدرت تكلفة إنتاج الأفلام الطويلة ب400 ألف أورو ، فيما بلغت تكلفة إنتاج الأفلام القصيرة 100 ألف أورو.
وتميزت أشغال الملتقى الذي حمل عنوان “أي نماذج مستقبلية للسينما الإفريقية ” بتقديم عدة مداخلات سلطت الضوء على راهن السينما الإفريقية وأهم العراقيل التي يواجهها المنتجون والمخرجون الأفارقة.
وفي هذا الصدد أكد ادوارد أوساي مدير البرامج الأكاديمية بمعهد نيجيريا أن السينمائيين الأفارقة اهتموا بتحقيق الربح والشهرة على حساب تقديم الوجه الحقيقي لإفريقيا من خلال أعمالهم.
وأضاف قائلا :”علينا إعادة النظر في طريقة تفكيرنا كأفارقة لنضمن ترقية مجتمعاتنا”،فيما أكد المنتج والمخرج المصري شريف مندور أن معظم المنتجين المصريين ينتجون أفلاما مخصصة للسوق المحلية والعربية فقط، مشددا على ضرورة الاهتمام بنشر الإنتاج السينمائي على مستوى الدول الإفريقية وتحقيق التعاون فيما بينها.
وتحدث ليبون مايما، وهو منتج من جنوب إفريقيا، عن النجاح الذي تشهده السينما في جنوب إفريقيا والذي يعود بالأساس إلى الاهتمام بإنشاء المؤسسات السينمائية وتخفيض الرسوم المتعلقة بالصناعة السينمائية، داعيا إلى تكثيف مثل هذه اللقاءات لبحث إستراتيجية موحدة تنتهجها الدول للنهوض بالقطاع السينمائي
معارض فنية تزامنا مع التظاهرة
بالموازاة مع فعاليات المهرجان أقيمت العديد من المعارض الفنية التي تجسد التراث الإفريقي عبر لوحات أبدعتها أنامل فنانين من القارة السمراء ، ومن ذلك المعرض الذي احتضنه رواق “محمد راسم” بالجزائر العاصمة والذي ضم الأعمال الفنية المنجزة خلال الورشة التي أقيمت بالمدرسة العليا للفنون الجملية بمناسبة المهرجان.
وتضمن المعرض الذي نظمه الإتحاد الوطني للفنون الثقافية أعمال الفنان الجزائري دريسي حسان و الفنان الكونغولي جو أوكيتاونيا تحت إشراف الفنان حمزة بونوة ويتمحور حول موضوعين رئيسيين و هما الهندسة المعمارية و المرأة.
وعرض حسن دريسي 17 لوحة زيتية مستوحاة من الهندسة المعمارية مثل القلع و القصور و المباني القديمة للقصبة العتيقة.
و قال الفنان في هذا الصدد “إن أعمالي مستوحاة من التراث المعماري وشوارع القصبة العتيقة التي أحاول أن أضفي عليها طابعا عصريا”.
أما الفنان جو أوكيتاونيا الذي أبرز غنى و تنوع الثقافة الإفريقية فقدم مجموعة من اللوحات ذات الألوان الزاهية تتطرق إلى مواضيع مختلفة.
وأكد الفنان “صحيح أن المرأة هي الموضوع الريئسي لهذا المعرض لكن هذا لا يمنعني من التطرق إلى إفريقيا و تقاليدها و ثقافتها
تكريم الفنانة مريم ماكيبا في حفل الاختتام
بعد 10 أيام من الفعاليات اختتم المهرجان بحفل فني كبير احتضنته قاعة الأطلس بالعاصمة وتشكل الحفل من ستة عشر لوحة مستنبطة من جمال الطبيعة الإفريقية صمم موسيقاها فريد عوامر ورقصاتها الكوريغرافية سفيان بلقرع تكريما لروح المغنية الشهيرة مريم ماكيبا، وعكست في مشاهد فنية باهرة تاريخ القارة وأهم ما تعانيه بداية بلوحة تحاكي أهمية الماء كعنصر للحياة.
وقالت وزيرة الثقافة خليد تومي على هامش الحفل الختامي أن الشباب الجزائري والإفريقي استطاعوا من خلال المهرجان أن يبرهنوا أنهم مرتبطون بأصالتهم وبتراثه الإفريقي ومتفتح على التكنولوجيات وعلى العصرنة، فيما أكد فريد عوامر أن حفل الاختتام، الذي كان أغلب المشاركين فيه جزائريون، يراد من خلاله إظهار حقيقة مفادها أن إفريقيا هي الأم، تمخض عن بعض الأبحاث التاريخية التي قام بها، موضحا أنه تضمن موضوع اكتشاف كريستوفر روس لأميركا وتواجد الأفارقة في القارة الأمريكية.
وقد تناغمت مختلف اللوحات بألوانها مع الموسيقى المستعملة التي تنوعت بين موسيقى الجاز والبلوز وبعض الموسيقى التقليدية الجزائرية منها والإفريقية، ورافقتها لوحات إلكترونية عرضت بعض المشاهد للمهرجان الإفريقي الأول الذي احتضنته الجزائر سنة 1969، كما تضمن ثنائي افتراضي بين ميريام ماكيبا و المغنية مريم لازالي في أغانية “أفريكا”.
واستمتع جمهور قاعة الأطلس أيضا بأغاني جماعية صفق لها بحرارة كبيرة وتفاعل معها مثل “ماكايكة” و “أنا حرة” و”باتا باتا”.