التوجيه بالقصور الذاتي وسيلة للملاحة تُستخدم لتوجيه الصواريخ والطائرات والغواصات وغيرها من المركبات. وعلى العكس من وسائل الملاحة الأخرى، فإن التوجيه بالقصور الذاتي لا يعتمد على المراقبة من الأرض أو النجوم، أو على إشارات الراديو والرادار، أو أية معلومات أخرى تأتي من خارج المركبة. وعوضًا عن ذلك، فإن هنالك جهازًا يسمَّى ملاّح القصور الذاتي يوفر معلومات التوجيه. ويتكون هذا الجهاز من جيروسكوبات (عجلات علوية دوّارة) تحدد الاتجاه، ومقاييس التسارع (أجهزة تقيس التغيّيرات في السرعة والاتجاه). ويستخدم حاسوب إلكتروني هذه المعلومات ليحدد موقع المركبة ويوجهها.
ميزات التوجيه بالقصور الذاتي. يمكن أن نوضح هذه الميزات بمثال رحلة الطائرة. فالطائرة، لكي تصل إلى وجهتها، يجب أن: 1ـ تطير في الاتجاه السليم و2ـ تقطع المسافة الصحيحة. ومن دون التوجيه بالقصور الذاتي، فإن على الطيار أن يعتمد على البوصلة أو إشارات الراديو التي تصل إليه من مواقع معروفة على الأرض ليتأكد من أن الطائرة تطير في الاتجاه السليم. ولدى الطيارين العديد من السبل لتحديد المسافة التي قطعتها الطائرة. فهم يستطيعون النظر إلى المعالم الأرضية، والتحقق من مواقع النجوم، وقياس الإشارات التي تصل إليهم من منارات الراديو أو ضرب سرعة الطائرة في الوقت الذي استغرقته في الطيران. أما في حال استخدام التوجيه بالقصور الذاتي، فإن كل ما يحتاجه الطيار هو النظر إلى معداته الملاحية داخل طائرته. وبهذه الطريقة يستطيع الطيارون تبيُّن طريقهم برغم ضعف الرؤية، أو تعطُّل أجهزة الاتصال، وغياب المعالم الأرضية. وفي أوقات الحرب، لا يستطيع الأعداء التشويش على أنظمة التوجيه بالقصور الذاتي بالمعلومات المزيفة أو المربكة.
كيف يعمل التوجيه بالقصور الذاتي. يقيس ملاّح القصور الذاتي التغييرات التي تطرأ على حركة المركبة أوتوماتيًا، ويرسل المعلومات إلى الحاسوب. بعد ذلك يحسب الحاسوب آثار كل التغييّرات، ويتابع المدى الذي وصلت إليه الطائرة والاتجاه الذي تحركت نحوه ابتداءً من نقطة انطلاقها.
وتدور ثلاثة جيروسكوبات داخل ملاّح القصور الذاتي في الاتجاهات المختلفة على محاور. وتوضع المحاور بحيث تكون على زوايا مقدار كل واحدة منها 90 درجة بالنسبة لبعضها بعضًا، وتشبه ثلاثة أطراف لصندوق تجتمع في أحد أركانه. وتحافظ المحاور على اتجاهاتها طالما تُواصل الجيروسكوبات دورانها السريع. ويُدعَّم كل جيروسكوب بمجموعة من المرتكزات التي تبقي الآلة في وضع أفقي (إطارات للتحرك) وذلك حتى تبقى على موقعها عندما تتمايل الطائرة، أو تنحدر، أو تدور. وتعمل الجيروسكوبات مع بعضها لتكون نظام مرجعية يعمل بالقصور الذاتي (مجموعة من الخطوط الثابتة). وتكتشف أجهزة قياس التسارع التغييرات التي تحدث في حركة الطائرة مقارنة بخطوط الجيروسكوب.
ويقيس جهاز الملاحة الذي يعمل بالقصور الذاتي المسافة التي قطعتها المركبة بتسجيل التغييرات التي تطرأ على الخط العمودي. ويشير هذا الخط إلى الجهة الواقعة في اتجاه مركز الأرض. وتشير الزاوية بين الخطوط إلى المسافة بين النقطتين. وكل دقيقة (واحد من ستين من الدرجة) من الزاوية تشير إلى مسافة سطحية تبلغ ميلاً بحريًا واحدًا (1,852م). ويبلغ طول المسافة من مدينة نيويورك إلى لندن 3,600 أميال بحرية (50°و6 دقائق).
نبذة تاريخية. عُرفت مبادئ التوجيه بالقصور الذاتي منذ أوائل القرن العشرين عندما فُهمت طريقة عمل الجيروسكوبات لأول مرة. واستخدمت الجيروسكوبات منذ ذلك التاريخ بوصفها بوصلات على متن السفن. ويمكن ضبطها بصورة مستمرة على اتجاه واحد كالاتجاه نحو القطب الشمالي على سبيل المثال. وعلى العكس من البوصلات المغنطيسية، فإن البوصلة الدوارة تشير على الدوام إلى الشمال الحقيقي ولا تتأثر بالفولاذ.
وفي عام 1923م، وصف المهندس الألماني ماكس شولر طريقة لرسم خط عمودي لا يميل عندما تغير المركبة سرعتها أو اتجاهها. وإذا مال الخط، فإنه لا يمكن استخدامه لقياس المسافة. وكانت طريقة شولر صحيحة من الناحية النظرية. ولكن لم يكن بالإمكان التخلص من الميلان بأجهزة آلية متوافرة في ذلك الوقت. أما اليوم، فإن نظرية شولر تُستخدم في بناء الأنظمة الإلكترونية التي تحول دون ميلان الخط العمودي.
وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، اخترع الألمان نظاماً للتوجيه بالقصور الذاتي وجه صواريخهم من طراز (V-2) ضد إنجلترا. وفي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين اخترع تشارلز. دريبر وغيره من العلماء في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية أول أنظمة توجيه بالقصور الذاتي اتسمت بالدقة الشديدة. وفي عام 1953م، قام دريبر بأول رحلة طيران عبر القارات مستخدمًا جهازًا للتوجيه يعمل بالقصور الذاتي. وفي عام 1958م، استخدمت الغواصتان الأمريكيتان نوتيلوس وسكيت جهازي ملاحة يعملان بالقصور الذاتي لتوجيههما تحت جليد القطب الشمالي. ومنذ أوائل الستينيات من القرن العشرين زُود الكثير من الغواصات بصواريخ مجهزة بموجِّهات تعمل بالقصور الذاتي. وكانت المركبات الفضائية من طراز أبولّو، التي صممت لتحمل الإنسان إلى القمر، مزودة أيضًا بأجهزة ملاحة تعمل بالقصور الذاتي.