يعتبر صدر الدين الشيرازي الملقب بالملا صدرا أو صدر المتـألهين، من كبار الفلاسفة في تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي، وقد سطع مجده الفكري والفلسفي في القرن العاشر الهجري، وكان من أهم إبداعاته الفكرية نظريته المعروفة حول "الحركة في الجوهر".. التي شرحها في كتابه "الأسفار العقلية الأربعة" الذي يعد بحق مرآة فلسفة الملا صدرا، والمدخل الأساسي لمعرفة رؤيته الفلسفية ونظرته إلى الكون والوجود والحياة.
وهذا الإبداع "الفلسفي-الديني" المتمثل في وصول صدر المتألهين إلى معرفة علة الوجود، انطلق أساساً من خلال كل تلك التجليات والتأملات العرفانية الفلسفية لهذا الفيلسوف الذي اختلى في جبال مدينة قم، مفضلاً الابتعاد عن أهل زمانه، فصنف كتابه المذكور للسالكين المشتغلين بتحصيل الكمال، وأبرز حكمة ربانية للطالبين لأسرار حضرة ذي الجلال والجمال.
وكان ترتيب تلك الأسفار كما يلي:
1. السفر الأول: وهو السفر من الخلق إلى الحق في النظر إلى طبيعة الوجود وعوارضه.
2. والسفر الثاني: السفر بالحق في الحق .
3. والسفر الثالث: السفر من الحق إلى الخلق بالحق .
4. والسفر الرابع: السفر بالحق في الخلق .
...وفي هذه الدراسة سنحاول إلقاء بعض الضوء على تلك النظرية المهمة التي سلك فيها صدر المتألهين -في مجال أزلية المادة وعلة الوجود- مسلكاً وفّق فيه بين الدين (ميل الإنسان نحو عالم الكمال المطلق) والفلسفة (كعلم يشتغل على معرفة الذات والعالم والخلق والوجود)، فأنتج نظريته في الحركة الجوهرية، وهي في غاية الغموض والإبهام، وتكاد تشبه نظرية آينشتاين في الطاقة التي أضاف إليها عامل الزمن. كما أنه يعسر فهمها إلا بالإمعان والتدبر العميق في فلسفته واصطلاحاته .
تتأسس هذه النظرية على مقدمة أساسية هي أن العالم المادي مطلقاً لا يزال في تجددٍ مستمر.. فالمادة -بجوهرها- في الآن الثاني غير المادة في الآن الأول، وهي متحركة دائماً بحركة جوهرية.. وللهيولى والصورة -في كل آن- تجددٌ مستمرٌ.
وبهذه النظرية استنتج الملا صدرا وجود علاقة توفيقية قوية بين الدين والفلسفة، من جهة أن الدين إنما أراد من الحدوث تجددَ المادة وحركتها حركة جوهرية، وهي حادثة في كل آن وإن لم يكن لها مبدأ زماني.. وهو يوافق العلم، فلا اختلاف بينهما; إذ كل منهما يقول بالحدوث بهذا المعنى والمبنى، أي تجدد المادة تجدداً جوهرياً، وكل منهما يقول بالقدم، لأنه لا يتصور عقلاً حدوثها من العدم البحت حتى يتصور لها مبدأ زماني.
أولاً- نظرية الحركة الجوهرية التكاملية
سبق لنا أن أشرنا خلال المقدمة إلى هذه النظرية الفلسفية العملية التي أبدعها وصاغها الفيلسوف الشيرازي.. وأثبت من خلالها إمكانية وجود وحدوث الحركة في الجوهر بعكس الفلاسفة السابقين الذين نفوا الحركة واعتبروها من اللاممكنات..
كما واستطاع الشيرازي -إضافة للإبداع السابق- البرهان على أن الحركة لا تمس الظواهر الطبيعية وسطحها العرضي فحسب، بل إن الحركة –في تلك الظواهر- ليست إلا جانباً من التطور الذي يكشف عن جانب أعمق.. وهو التطور في صميم الطبيعة، وفي عمق حركتها الجوهرية.. على اعتبار أن الحركة السطحية في الظواهر –لمّا كان معناها التجدد والانقضاء- فيجب لهذا أن تكون علتها المباشرة أمراً متجدداً، غير ثابت الذات أيضاً.. لأن علة الثابت ثابتة، وعلة المتغير متغيرة(1).. وعلة المتغير المتجدد متغيرة متجددة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً.
إذاً لقد أوضح الفيلسوف الشيرازي أن مبدأ الحركة هو ضرورة فلسفية، وهو بذلك استطاع أن يحلّ الكثير من الإشكالات الفلسفية التي كانت تتصل بمسألتي الزمان والمكان، وقضية تكامل المادة، وتجرّدها، والعلاقة بين النفس والجسم .. إلى غيرها من المسائل الفلسفية المعقدة.
وحتى نتمكن من إدراك حقيقة هذه النظرية –فيما سيأتي من تحليل وبحث فكري- لابد من تسليط الضوء المنهجي على طبيعة الحركة في الجوهر.. وذلك من خلال تفكيك الأسس العامة التي استند عليها فيلسوفنا الكبير لوضع نظريته الحركية، وتوضيحها بمجموعة أمثلة عملية توخياً لمزيد من الدقة والفهم..
ولذلك يجدر بنا بدايةً وقبل خوض غمار نظرية (الحركة الجوهرية) من الناحية الفلسفية لا بد من الوقوف المتأمل أمام المصطلحات والمفاهيم الجزئية المكوّنة لهذه الحركة الجوهرية.
ماهية الحركة:
تعرف الحركة بالمصطلح الفلسفي على أنها "خروج الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج".. وهذا التعريف يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
أ) الخروج من القوة.
ب) إلى الفعل.
ج) على سبيل التدرج.
ويقصد بالقوة قابلية الشيء وإمكانيته. فإن قولنا: إن هذا الطفل طبيب بالقوة, يقصد منه أنه قابل لأن يكون طبيباً وذلك ممكن وليس بمحال. أو كقولنا: إن هذه البذرة شجرة بالقوة, ونقصد بذلك أيضاً أنها من الممكن أن تكون شجرة, أو إن لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة لاحقاً في المستقبل.
أما معنى الفعل فهو عبارة عن وجود الشيء حقيقة. ومنه اشتقت كلمة الفعلية (هناك فرق بين حقيقة الشيء وواقعه. فالشيء الواقعي هو الشيء كما هو موجود في الواقع الخارجي، أما الوجود الحقيق فهو الشيء كما ينبغي أن يكون في الواقع). ومثال ذلك قولنا: إن هذه الشمعة مشتعلة بالفعل إذا كانت مشتعلة حال كلامنا عنها، حيث نراها متجسدة بفعل الاشتعال أمام ناظرينا.
أما معنى قولهم: «على سبيل التدرج» فهو أن هذا الانتقال من حال القابلية إلى حال الفعلية لا يكون دفعة واحدة وخارج إطار الزمن بل لابد أن يكون متدرجاً في حصوله درجة درجة ومرحلة مرحلة.
وبهذا يمكننا القول: إن الخروج من حال العدم إلى حال الوجود لا يسمى حركة وإلا لزم وجود حالة ثالثة بين الوجود والعدم كما توهمه البعض. والحقيقة إن الوجود والعدم مفهومان لا يجتمعان (يثبتان) ولا يرتفعان (يسلبان) عن موضوع واحد من جهة واحدة.
ويمكننا إعادة صياغة تعريف الحركة على أنها تحقق قابلية الشيء تدريجياً. ويصدق هذا التعريف على كل أنواع الحركة كالحركة في المكان والحركة في الكيف والحركة في الكم والحركة في الجوهر الذي هو محل حديثنا.
أما معنى الجوهر, فيعرف على أنه «الموجود لا في موضوع» على العكس من العرض المعرف على أنه «الموجود في موضوع». وتوضيح معنى العرض أولاً ضروري لفهم معنى الجوهر تبعاً.
إذن فالعرض «ماهية مستقلة بحسب نفسها, ومفهومها, لا مستقلة بحسب وجودها, إذ هو بحاجة في وجوده إلى الوجود في غيره». ومثال ذلك: اللون الذي يمتلك معنى مستقل بذاته عقلاً, إلا أنه في الخارج لا ينفك عن الحلول في جسم ما.
أما الجوهر فهو الماهية المستقلة مفهوماً ووجوداً. وفي مثالنا السابق يكون الجوهر هو الجسم. والجسم ذو معنى مستقل ولايحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره إذ هو مستقل بذاته, والعرض والجوهر عنوانان عامان أحد مصاديقهما اللون والجسم تبعاً, ولهما مصاديق أخرى كثيرة.
-الأدلة والبراهين التي أقام الشيرازي صرحه الفلسفي عليها:
يمكننا بدايةً وضع التبويب الجديد التالي لدراسة تلك الأدلة طلباً لمزيد من الوضوح والسهولة في فهم النظرية:
الدليل الأول- العلة الطبيعية والمعلول العرضي:
يتألف هذا الدليل من مقدمتين ونتيجة، تتحدث أولاهما عن "أن التحولات العرضية معلولة لطبيعتها الجوهرية"، أما الثانية فإنها تركز على "أن العلة الطبيعية للحركة لا بد أن تكون متحركة".. فتكون النتيجة هي أن الجوهر –الذي يعتبر علة للحركات العرضية- لا بد أن يكون متحركاً(2).. وإذا أردنا أن نصب المعنى في قالب منطقي فإننا نقول:
الطبيعة الجوهرية علة للتغيرات العرضية
العلة الطبيعية متحركة
الطبيعة الجوهرية متحركة