هل كل ما هو نفسي شعوري؟ (الطريقة الجدلية).
مقدمة: إن التعقيد التي تمتاز به حياتنا النفسية جعلها تحظى باهتمام الفلاسفة وعلماء النفس القدامى والمعاصرون، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من ظواهرها فاعتقد البعض منهم أن الحياة النفسية والشعور مترادفان، أي أن الشعور هو الأداة الوحيدة لمعرفة حياتنا النفسية أو الواقع النفسي فهل هذا الاعتقاد صحيح؟ وبعبارة أخرى هل معرفة الفرد لواقعه النفسي متوقف على الشعور وحده؟
الرأي الأول: ذهب بعض الفلاسفة أنصار علم النفس التقليدي إلى الاعتقاد بأن الشعور أساس كل معرفة نفسية فيكفي أن يحلل المرء ليتعرف بشكل واضح على كل ما يحدث في نفسه من أحوال نفسية كالحزن، الفرح، الحسد، الغيرة، الحب...، فالحياة النفسية في نظرهم هي الحياة الشعورية، أي أن كل ما هو نفسي شعوري وكل ما هو شعوري نفسي، ومن أبرز المدافعين عن هذا الاعتقاد روني ديكارت الذي يقول: " ليست هناك حياة نفسية أخرى خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية"، فالشعور يمثل جميع الحياة النفسية ويغطيها كلها وكل ما لا نشعر به ليس من أنفسنا
الأدلة: لقد اعتمد أنصار هذا الموقف على حجة مستمدة ومستوحاة من الكوجيتو الديكارتي حيث يقول: " أنا أفكر أنا موجود" وهذا يعني أن الفكر سابق على الوجود وان النفس البشرية لا تنقطع على التفكير إلا إذا انعدم وجودها وكل ما يحدث في الذات والنفس قابل للمعرفة والشعور قابل للمعرفة فهو موجود وأما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة فبالتالي هو غير موجود.، إذا لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها لأننا لا نستطيع القول بأن الإنسان يشعر ببعض الأحوال ولا يشعر بأخرى مادام الاستمرار والديمومة من خصائص الشعور، وكما أن القول بوجود حياة نفسية لا نشعر بها هو من قبيل الجمع بين نقيضين في الشيء الواحد، فلا يمكننا تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر.
النقد: لا شك أن الشعور أداة ضرورية لمعرفة الحياة النفسية، ولكنه ليس الأداة الوحيدة لمعرفتها فحصر الحياة النفسية في الشعور يبقى قسما كبيرا منها مجهول الأسباب وغامض والدليل على ذلك أننا كثيرا ما نجد أنفسنا فرحين أو حزينين دون معرفة السبب كما أننا نميل إلى بعض الأشخاص وننفر من البعض الأخر دون مبرر واضح.
فالشعور إذن لا يصاحب جميع فاعليات النفس ونت هنا نستنتج انه إذا كل ما هو شعوري نفسي فالعكس غير صحيح.
الرأي الثاني: وعلى العكس من ذلك ذهب الكثير من العلماء المعاصرين إلى القول بان الشعور لا يعتبر الأداة الوحيدة لمعرفة الحياة النفسية لان هذه الأخيرة ليست حياة شعورية فقط ولذلك فالإنسان لا يستطيع أن يعي ويدرك جميع أسباب سلوكه. الطبيب سيدمون فرويد الذي يعتقد بان الشعور ليس هو النفس كلها بل هو جزء منها لان هناك جانب هام في النفس لا نتفطن إلى وجوده عادة ولكن له تأثر أساسي على سلوكنا وانفعالاتنا وأفكارنا.
الأدلة: ولقد اعتمد أنصار هذا الموقف على جملة من الأدلة تثبت ما ذهبوا إليه منها: عجز الشعور عن إعطائنا معرفة عن كل حياتنا النفسية نظرا لنقص معطياته فهو لا يمكننا من معرفة أسباب الكثير من المظاهر السلوكية كالأحلام والنسيان وزلات القلم وفلتات اللسان هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الطب النفسي اثبت بأن الكثير من الاضطرابات النفسية تم علاجها بالرجوع إلى الخبرات والأحداث المكبوتة في اللاشعور نذكر من ذلك تجربة جوزيف
بروير Joseph Breuerفي معالجته للفتاة المصابة بالهستيريا فتوصل إلى أن الأعراض العصبية سببها ذكريات منسية موجودة في اللاشعور، فالفتاة كلما استحضرت الذكريات الماضية لا حظ الطبيب زوال الأعراض وكلما نست الماضي ظهرت الأعراض. ولكن لما كان العلاج بالتنويم مؤقتا ابتكر سيدمون فرويد طريقة علاجية أخرى تسمى التحليل النفسي القائم على التعبير أولا والتداعي الحر للأفكار ثانيا.
النقد: لا شك في أن مدرسة التحليل النفسي قد أثبتت على فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ودور التحليل النفسي في معالجة الكثير من الاضطرابات النفسية ولكن اعتبار السلوك الإنساني سلوك تدفع إليه الدوافع اللاشعورية كالرغبات والميول المكبوتة والغرائز الجنسية فيه الكثير من المبالغة لأن الإنسان ليس حيوان توجهه غرائزه، بل هو كائن عاقل وواع.
التركيب: من خلال تحليلنا للموقفين السابقين يتبين لنا أن الحياة النفسية بنية مركبة من جانبين جانب الشعور وجانب اللاشعور فكلاهما يؤثر فيه سلوك الإنسان ويعملان على توجيهه، ولهذا فما لا نفهمه من الشعور يمكن أن نفهمه برده إلى اللاشعور.
الخاتمة: في الأخير نستنتج انه إذا كان كل ما هو شعوري نفسي فالعكس غير صحيح، ولكن مع ذلك يبقى الشعور أداة ضرورية لفهم الحياة النفسية.