كان
صوت الموسيقى يصدر من غرفة الجراحة في مستشفى هاواي، عندما فُتح الباب
وأُدخلت العربة المدولبة، استقبل جرّاح يعزف على البيانو لحن The More I
See You المريض بالترحاب. بينما كان الجراح يواصل عزف مقتطفات من معزوفات
أخرى، اضمحل خوف المريض من العملية الجراحية. توقفت الموسيقى، فباشر الجراح
عمله.
هدف إدخال الموسيقى كعنصر مساعد قبل البدء بالجراحة
في مستشفى هاواي (الاختبار الأول من نوعه في العالم)، معرفة أثر الموسيقى
في الصحة والألم والمؤشرات الحيوية، كضغط الدم ودقات القلب ومعدلات
التنفّس، فضلاً عن مستويات الهورمونات والأجسام المضادة. توصّل فريق ثان من
الباحثين إلى أن للموسيقى تأثيراً قوياً في جهاز المناعة، لأنها تعزز
المركّبات التي تحمي الجسم من العدوى.
يسعى الباحثون إلى اكتشاف
آثار الموسيقى في حالات مرضيّة مختلفة، منها: الجلطات، التوحّد، مشاكل
القلب، الصحة العقلية، الاكتئاب، الألم، كسور العظم، الألزهايمر، وداء
الرئة. لذلك، استخدموا الموسيقى المعزوفة بآلات النفخ لتخفيف قلق المريض
قبل دخوله غرفة الجراحة، والموسيقى المعزوفة بالآلات الوترية لتخفيف ألم ما
بعد الجراحة، نظراً إلى أنها قد تكون فاعلة بقدر عقار الفاليوم المسكّن
للآلام.
تبيّن أن الاستماع إلى الموسيقى يساعد في التعافي من جلطة
دماغية أو ذبحة صدرية. كشفت دراسة شملت 60 رجلاً وامرأة في جامعة هلسينكي،
أن المرضى الذين استمعوا إلى الموسيقى بعد وقت قصير من تعرّضهم لجلطة
دماغية تعافوا بشكل أفضل: تحسنت ذاكرة الذين عولجوا بالموسيقى بنسبة 60 في
المئة بعد مرور ثلاثة أشهر على إصابتهم بالجلطة، مقارنةً بـ29 في المئة لدى
مجموعة خضعت للمراقبة فحسب. كذلك، تحسّن مستوى التركيز والحالة النفسية
ومستوى الانتباه بنسبة 17 في المئة لدى المجموعة التي استمعت إلى الموسيقى،
في حين لم يطرأ أي تغيير على المجموعة الأخرى.
تعزيز المناعة
تخفّف
الموسيقى الآلام المزمنة والحادّة. أظهر بحث أجرته جامعة دونغسان في كوريا
شمل 40 مريضاً تعرضوا لكسور في الساق، أن استماعهم إلى الموسيقى من 30 إلى
60 دقيقة يومياً خفّف درجات الألم ومستويات ضغط الدم، وحسّن أيضاً معدلات
التنفّس لديهم.
كذلك، يمكن لجهاز المناعة الاستفادة من الموسيقى.
نجح باحثون في جنوب إفريقيا في استخدامهم "ترنيمة التمجيد" لباخ لتحسين
الحالة النفسية، وتعزيز جهاز المناعة، وخفض هورمونات الإجهاد لدى مرضى
يخضعون للعلاج الفيزيائي بسبب داء رئوي معدٍ.
تراجع مستوى ضغط الدم
لدى المرضى الذين استمعوا إلى الموسيقى لمدة 25 دقيقة يومياً على مدى
أربعة أسابيع، في حين لم تشهد مجموعة خاضعة للمراقبة لم تستمع إلى عزف
موسيقي أيّ تحسّن في حالتها. بعد أربعة أسابيع، بلغ متوسط هبوط ضغط الدم
الانقباضي لدى المجموعة التي عولجت بالموسيقى 11.8 ملم زئبق و4.6 ملم زئبق
لضغط الدم الانبساطي، فيما لم تطرأ أية تغييرات مهمة لدى المجموعة الخاضعة
للمراقبة فحسب. يقول الباحثون من جامعة هونغ كونغ الصينية: "قد يكون العلاج
بالموسيقى بديلاً عن علاج الضغط المرتفع".
في المقابل، ليست أنواع
الموسيقى كافة فاعلة في هذا الصدد. تبين أن الموسيقى ذات النغمات السريعة
والنابضة تعكس أثراً مضاداً، فتحفّز بالتالي الانفعالات السلبية.
كيف
يمكن للجسم إذن استخلاص المنافع الصحية من الموسيقى؟ قد تلهي الموسيقى
المريض إلى حدٍّ تنسيه الألم الذي يشعر به. عندما خضع الأصحّاء لاختبار
الألم، كما حدث في البحث الذي أجرته جامعة غلاسكو كاليدونيان، تمتعوا بقدرة
أكبر على تحمّله عندما كانوا يستمعون إلى معزوفتهم المفضّلة.
صرف
الانتباه ليس الطريقة الوحيدة التي تخفّف أوجاع المرض، توصلت دراسة فنلندية
حول التعافي من جلطة دماغية إلى أن الموسيقى تُعالج أجزاءً مختلفة من
الدماغ، وعبر تشتيت انتباه المريض، تحفّز الخلايا العصبية التي تتخطى
المنطقة المتضررة بفعل الجلطة الدماغية.
معالجة الأعصاب
تلفت
إحدى النظريات إلى أن الموسيقى تحفّز دوائر عاطفية في الدماغ تنتج
الهورمونات الرئيسة، التي تؤثر على وظائف الجسم، بدءاً من معالجة الأعصاب
إلى تخفيف الألم.
في المجال نفسه، توصل بحث أجراه معهد ماكس بلانك
لعلوم الإدراك البشري والدماغ في لايبزغ وجامعة سوسكس، إلى أدلة جديدة حول
كيفية دعم الموسيقى جهاز المناعة. أجرى الباحثون دراستين للبحث في مدى
تأثير الموسيقى في هورمونات الإجهاد. بعد تعريض 300 شخص لموسيقى راقصة
مفرحة، قاس الباحثون مستويات الغلوبولين المناعي والهورمونات، بما في ذلك
هورمون الكورتيزول لدى أولئك. أظهرت النتائج أن مستوى الكورتيزول انخفض
بشكل كبير، بينما ارتفع مستوى الغلوبولين المناعي لدى من استمعوا إلى
الموسيقى لمدة 50 دقيقة تقريباً. كذلك، تجلّت آثار الموسيقى بوضوح في
المركبات التي تؤدي دوراً في الالتهاب والسلوك، فتحسنت الحالة النفسية لمن
استمع إليها بشكل ملحوظ.
يتولد هورمون الكورتيزول كردة فعل على
الإجهاد، ويزيد ضغط الدم ومستويات السكر في الدم، فضلاً عن إضعافه جهاز
المناعة. لذلك، قد يبرر تراجع مستويات هذا الهورمون بعد الاستماع الى
الموسيقى، انخفاض ضغط الدم وخطر الإصابة بأمراض توصل إليها باحثون آخرون.
الى ذلك، يعتبر ارتفاع مستوى الغلوبولين المناعي إنجازاً مهماً، لأن الأخير
عبارة عن جسم مضاد يؤدي دوراً رئيساً في حماية الجسد ضد العدوى والحساسية.
تبين
في بعض الحالات أن فاعلية الموسيقى لا تقل عن قوة أي علاج بالأدوية. في
هذا السياق، قارن أطباء في مستشفى موتوا دي تيراسا في برشلونة قدرة
الموسيقى بتلك التي يتمتع بها عقار الفاليوم في تخفيف حدة القلق قبل الدخول
إلى غرفة العمليات لدى 207 مرضى. تناولت إحدى المجموعات العقار، في حين
استمعت أخرى إلى الموسيقى في موعد العملية الجراحية وعشيّته. قبل دخولهم
غرفة الجراحة، فحص الأطباء دقات قلب المجموعتين وضغط دمهما، ولم يتضح
بالتالي أي فارق بينهما.
في جامعة هاواي أيضاً، أُحضر المرضى الذين
سيخضعون لجراحة في العينين، مسبقاً إلى غرفة العمليات للتخفيف من قلقهم،
وبدأ الجراح بعزف مجموعة من مقطوعات موسيقية على البيانو، تتراوح نغماتها
من بطيئة إلى متوسطة، فتحسّن مستوى ضغط الدم لدى المجموعة التي استمعت الى
الموسيقى، ودقات قلبها، ومعدلات تنفسها، مقارنةً بالمجموعة التي خضعت
للمراقبة فحسب.
يؤكد الأطباء في جامعة هاواي أن الوجود غير الاعتيادي لبيانو في غرفة العمليات لم يولّد آثاراً جانبية لدى المرضى.