المشكلة الثانية في اللغة والفكر
طرح المشكلة العامة
إذا كان
الإدراك عملية تنطوي على حكم ضمني يصدره الإنسان على الشيء المدرك ، فهذا
يعني أن التفكير يلازم باستمرار عملية الإدراك وأثناء قيام التفكير بوظيفته
يستعين بأدوات من بينها الكلمات والتي تسمى باللغة .
وهذه
الأخيرة تغني المتكلم عن إحضار الأشياء ، إلا أنها متنوعة ،قد نجد الكلام
،الموسيقى ، الإيماءات ...الخ ، لهذا أثيرت مشكلة طبيعة و أهمية اللغة وهل
وظيفتها تقتصر على التواصل فقط ؟
إذا لم
تكن اللغة مجرد أصوات نحدثها ولا مجرد رسوم نخطها ، فما عساها أن تكون ؟
أليست عبارة عن إشارات ورموز نبدعها لتساعدنا على تنظيم حياتنا الداخلية
وعلى تحقيق التواصل مع غيرنا فضلا عن تحديد علاقاتنا مع عالم الأشياء ؟
أولا: التمييز بين اللغة لدى الحيوان ولدى الإنسان:
-1- تعريف اللغة يستوعب الكائنات الحيوانية والإنسان
إذا عرفنا اللغة بصفة عامة يقول الفيلسوف الفرنسي ' لالاند
"في معجمه الفلسفي "كل أنظومة ( أو نسق ) من الرموز يصلح للاستعمال كوسيلة
للتواصل " ، فإنه يمكن القول بأن للحيوانات لغة ، فالأصوات والحركات لها
دلالات معينة هذا ما أثبتته الدراسات التي قام بها العالم " فون فريشت "
.مثلا للنمل لغة كيميائية ، يتواصل عن طريق القرون الاستشعارية ، النحل
←الرقصات ، بحيث تقوم النحلة الكشافة برقصات تدل على مكان وجودة الطعام ،
القردة من النوع الشمبانزي تصدر أصواتا ( أكثر من 32 صوت) مختلفة لها
دلالات معينة ...الخ
أما المعنى الخاص
، فإن كلمة لغة تطلق على " مجموعة من الرموز والإشارات ، ذات صبغة مجتمعية
،تستعمل للدلالة على المعاني ، ومن أجل التفاهم بين الناس "كما يقول '
محمد عابد الجابري ' .ولتلك الرموز والإشارات دلالة معينة كما في الفن مثلا
إذ يعبر الفنان عن معاني مختلفة من خلال لوحاته . وقد تكون ألفاظا وهي
حينئذ كلام وهو ما يرادف اليوم باللسانيات
-2- خصائص اللغة لدى الحيوان والإنسان:
ـ لدى الحيوان
: فهي لا تتعدى مجرد الاستجابة لبعض المواقف والحاجات البيولوجية كونها
لغة فطرية وراثية صادرة عن الغريزة ونوعية لا تخرج عن إطار النوع ( مثلا
النحل لا يتفاهم مع النمل وهكذا...الخ).
ـ لدى الإنسان : تم الإقرار بعد المقارنة بين لغة الحيوان والإنسان بأن وظيفة الكلام ليست مادية
بل هي وظيفة ذهنية روحية ينفرد بها الإنسان وتتميز بما يلي :
- فهي لغة مكتسبة عن طريق التعلم .
- لها بنية مركبة تتفرع إلى نوعين، المستوى الصوتي ( الأصوات التي يصدرها الكلام ) والمستوى التركيبي ( الخاص بالمعنى الذي تحمله ).
- فهي أداة لربط أبعاد الإنسان ( الماضي ، الحاضر، المستقبل )
- متطورة ومجردة .
- تعبر عن الجانب الروحي للإنسان .
- يمكن أن تكون أداة خطر ( تكذيب ، تجريح مثلا... الخ ).
نتيجة
إدا
أخذنا اللغة بمعناها العام فإنها تستوعب الحيوانات والإنسان معا أما إذا
أخذناها بمعناها الخاص المرتبط بالكلام فهي تخص الإنسان فقط .
إذن لغة
لحيوان انفعالية وبيولوجية أما لغة الإنسان فهي ظاهرة عقلية إبداعية (
تستعير أعضاء حيوية )( سنشير إلى ذلك في المقالة ) ولعل ما قاله الفيلسوف
الفرنسي ' كوسدورف' " يؤكد ذلك "إن اللغة هي الشرط الضروري للدخول إلى
الوطن الإنساني ".Gosdorf"
ثانيا: وظائف اللغة كأداة يبدعها الإنسان :
ما دامت
اللغة هي نتاج اجتماعي يحقق للفرد شروط التكيف والاتصال فإن هذا الأخير لا
يتم إلا إذا توفرت شروط كونه تبادل الأفكار والأشياء بين الأفراد ومن بين
وسائله ، الكلام وهذه الشروط هي : المرسل – المتلقي – الرسالة – المرجع (
الموضوع ) – روابط الاتصال ( ماديا ومعنويا )- الشفرة .( أنظر كتاب
الإشكاليات )
لكن هل تقتصر وظيفة اللغة على التواصل فقط ؟
* وظيفة اللغة في تحقيق التواصل وحمل الثقافة :
لو عدنا
إلى إشكالية الحياة بين التجاذب والتنافر وبالتحديد إلى مشكلة الشعور
بالأنا والشعور بالغير( السنة الثانية ) لاتضحت الرؤية أكثر ، لأن الإنسان (
الأنا ) لا يمكنه العيش بمفرده فوجود الغير ضروري لوجوده أو لمعرفة نفسه ،
مما يستلزم التواصل معه،و لذا كانت الوسيلة هي اللغة هذا من جهة . ومن جهة
أخرى فهي وسيلة لتثبيت وحفظ المعرفة المتراكمة ونقلها من جيل إلى جيل .إذ
تعتبر مقوم من مقومات قيام الأمة وتوليد الشعور بالانتماء إلى نفس الأمة ،
هذا ما عبر عنه فلاسفة الألمان ، ولعل ما جر لألمانيا في عهود سابقة (
تجزئتها إلى دويلات ) وتوحيدها كان بفضل اللغة
لهذا
قال' فيخت'"إن الذين يتكلمون لغة واحدة يكونون كلا موحدا ، ربطته الطبيعة
بروابط متينة وان كانت غير مرئية ". يمكن القول بأنه مهما تعددت وظائف
اللغة ، فلا مناص من إرجاعها كلها الى وظيفة واحدة هي التواصل الاجتماعي
هذا ما عبر عنه الباحث الأكاديمي الفرنسي 'غوسدورف '" ..تضطلع اللغة في
جوهرها بوظيفة تمتين عرى التواصل وتعزيز العلاقات بين الأفراد في سعيها الى
الاستمرارية والتطور ."
* وظيفة اللغة في تنظيم الفكر وتطوره :
إن اللغة
بالمعنى الخاص والمرتبطة بالكلام ، هي التي تميز الإنسان عن الحيوان لأن
الكلمات تستلزم الوعي ومقدرة على التجريد ،فلا يجوز الفصل بين اللغة
والفكر. فاللغة إذن هي التي تبرز الفكر تنظمه وتطوره باعتبارها شكل من وجود
الفكر وشكل للتعبير عنه هذا ما
أوضحه لنا الباحث الجزائري 'حنفي بن عيسى ' في قوله "..اللغة تقدم للفكر تعاريف جاهزة ،
وتصف الأشياء بخصائصها حتى لا تتداخل مع غيرها ، وتساعد المفكر في عمله ، إذ تزوده
بصيغ و تعابير معروفة ، وتضع تحت تصرفه أساليب مدروسة ."
*لكن
للغة وظائف أخرى : - نفعية – شخصية – تفاعلية – استكشافية – تحليلية –رمزية
–إخبارية – نفسية ... ولأجل كل ذلك، اللغة خاصية إنسانية فقط .
وفي هذه
الحالة أيضا تم الانتقال من اللغة الفطرية الطبيعية ( التعبير مثلا بواسطة
الصراخ ، الضحك...) وهي لغة مشتركة بين الإنسان والحيوان ( حالات الجوع
والعطش ..الخ ) إلى اللغة الوضعية المتفق عليها ( اجتماعية ) ( شرح قوانين
اللغة عن طريق قواعد صرفية ونحوية ) إلى اللغة المنطقية ( العلمية) وهذا ما
يفسر تطورها عند الإنسان وتحجرها وتصلبها عند الحيوان .
ثالثا : اللغة وتحديد علاقاتنا بعالم الأشياء :
قبل كل شيء يجب التمييز بين المفاهيم التالية :
- اللسان يخص جماعة معينة تتكلم لغة معينة وفق ظروف وعوامل معينة ( التقاليد ومختلف الأنظمة )
- أما
الكلام هو القدرة على التفاهم بين الناس ويشمل الممارسة الفردية المنطوقة
عن طريق علامات صوتية تنتجها لغة معينة والخالية من أي اضطراب عقلي أو عضوي
كالحبسة
- وأما اللغة فهي ظاهرة اجتماعية تشمل كل ما هو منطوق أو مكتوب أو إشارات اصطلاح .
ـــ إذن اللغة بمعناها الخاص متعلقة بالكلام وفق ما يتوافق ويسمح به اللسان ، لهذا قيل "اللسان متعدد أما اللغة واحدة "
* ما دامت اللغة محصورة في الكلام فمما يتكون هذا الأخير ؟
يتكون من :
- الفونيمات ( ) ــــــــــــ وهي نبرة الصوت الأساسية غير دالة .
- المورفيمات( ) ــــــــــــ وهو ما ينتج عن ضم الوحدات الصوتية لها معنى في بداية الكلمة ونهايتها .
* إذا كانت كل كلمة رمز فهل كل رمز كلمة ؟ قبل ذلك ماذا نعني بالرمز وما طبيعته؟
ـــ
الرمز هو صورة تعبر عن شيء مجرد كدلالة الحروف، ويعرفه علماء اللغة بأنه
مثير يستدعي لنفسه نفس الاستجابة التي قد يستدعيها شيء أخر . والرمز حسب '
محمد عابد الجابري ' مندمج في الشيء المرموز إليه فالصيحة الدالة عن الألم
تعبر في ذاته عن الألم ، وابتسامة الرضى تتضمن في ذاتها معنى الرضى .
فالتعبير الرمزي تعبير انفعالي قلما يصحبه ذكاء أو إعمال الفكر . وهو نوعان
:
- رمز لغوي ــــــــــــــــ يشير إلى أشياء أخرى
- رمز غير لغوي ــــــــــــــــ يستدعي شيء أخر غير نفسه كالمنعكس الشرطي
*ولكي يتم التواصل والتفاهم يجب أن تكون الرموز لها دلالة وهذه الأخيرة تتكون من :
': وهو كل لفظ ، قول ، إشارة ، رمز يشير إلى شيء معين SIGNIFIANT ' ـ الدال
محدد في الواقع الحسي وهو المشار .
' : وهو كل ما يشير إليه الدال أو هو المشار إليه ( المعنى) SIGNIFIEــ المدلول'
* ما طبيعة العلاقة الموجودة بين الدال والمدلول ؟
ــ العلاقة طبيعية ( ضرورية): الرأي الأول
يرى
البعض أن العلاقة الموجودة بين الدال والمدلول هي علاقة ضرورية ( طبيعية )
على أساس أن العقل البشري يرفض تقبل الأصوات أو إنشاء كلمات لا تحمل تمثلا
ماديا هذا ما بينه لنا '" بأن الكلمات تعبر عن ماهية الأشياء " CRATYLE
'أفلاطون 'في محاورة كراتيل' لو عدنا إلى المرحلة الرعوية التي مر بها
الإنسان العربي ، نجد أن بعض الحروف التي ابدعها كانت نتيجة محاكاته لمشاهد
طبيعية ، على سبيل المثال حرف النون كان نتيجة تقمصه للشخص الذي يئن من
شدة الألم فاستشف من ظاهر حاله وأنينه النوني، معنى الألم الدفين
الذي سبق ان عاناه هو نفسه في وضع مماثل، وكانت النتيجة أن استعمل النون
للتعبير عن الألم الباطني،وهكذا أبدع أصوات حروفه الشعورية تقليدا عفويا من
الطبيعة والناس
*لكن كيف نفسر تعدد الألفاظ والأسماء حول شيء واحد ؟
ـــ العلاقة اعتباطية ( تواضعية ):
" DE
Sussure إن الدراسات التي قام بها العلماء في هذا المجال خاصة العالم "
تبين لنا أن العلاقة بين الدال والمدلول في الحالات العامة هي مجرد علاقة
تحكمية اصطلاحية أي لا توجد أية ضرورة تربط بين الدال والمدلول ، إلا ا ذا
استثنينا بعض الحالات الخاصة ،ليس هناك ضرورة أن نسمي الأشياء بأسمائها
المعروفة بدليل تعدد الدال حول مدلول واحد سواء في نفس اللغة أو في لغات
أخرى مثلا كلمة أسد ، ليث ، إزم ، .. إلخ تشير إلى نفس المعنى لهذا يقول
"دي سسور'':
" ليس الدال صورة للمدلول بل مجرد علامة له "
*لا يمكن إنكار ذلك ،لكن هذا لا يعني أن الإنسان حر في وضع الرموز اللغوية ما لم يسمح به المجتمع
* إذن اللغة نشاط رمزي والعلاقة بين الألفاظ والأشياء غير ضرورية أين نتمكن من إحضار الأشياء دون وجودها المادي .
ـــ ملاحظة : تلك المشكلة السابقة تدخل ضمن مشكلة أصل اللغة
لقد اختلف الفلاسفة حول منشأ و أصل اللغة لهذا نجد عدة نظريات من بينها :
- هي نتيجة اتفاق بين الناس ، اتفق الناس على تسمية الأشياء بأسمائها . لو كان الأمر كذلك فما هي اللغة التي اتفقوا على ذلك ؟
- اللغة
هي غريزية في الإنسان . نفس الشيء ليس صحيحا لأن الطفل لو ترك لوحده لما
كانت له لغة، ولعل قصة الطفل الهندي الذي عاش في الأدغال تؤكد عجز التعبير
عن الأفكار بدون لغة.
ومن جهة أخرى لما اختلفت لغات الناس ؟
- فهي مكتسبة عن طريق التعلم والتقليد ، لهذا هي ظاهرة اجتماعية تفرض التواصل بين أفراد المجتمع .
-2- تبادلية اللغة والفكر :
إذا كانت
اللغة تسمح للإنسان أن يعبر عن أفكاره فإنه أيضا يمكن أن يفهم بدون أن
يتكلم على أساس أن التفكير هو حديث المرء ونفسه ، لكن من جهة أخرى يستطيع
أن يتكلم دون أن يفهم ، وفي هذه الحالة نتساءل عن العلاقة التي تربط بين
الفكر واللغة ؟
* علاقة اتصال ـــــــــــــ وهو الاتجاه الأحادي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن اللغة تعبر عن الفكر فهما وجودان غير منفصلان :
- أفلاطون ــــــــــــــ التفكير حديث داخلي صامت ( دون إصدار أصوات )
- هيجل ــــــــــــــ هي تعبير واضح عن الفكرة الغامضة فليس هناك تفكير بدون لغة
- مرلوبونتي ـــــــــــــ التفكير الخالص غير موجود ، فاللغة هي قوة استذكارية
- لينين ـــــــــــــ كل كلمة تعميم ، لهذا اللغة شرط ضروري للنشاط التعميمي للفكر
- ديكارت وكومسكي ـــــــــــ اللغة تعكس روح الفكر
* علاقة انفصال ــــــــــــــــــ وهو الاتجاه الثنائي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن اللغة تعيق الفكر فهما وجودان منفصلان :
- نيتشه ــــــــــــ اللغة تجزأ الفكر ولا تستطيع أن تسايره لأن الفكر متصل
- برغسون
ــــــــــــ اللغة لا تستطيع أن تعبر عن كل التصورات والأفكار والمشاعر
وحتى إذا تمكنا فليس بصدق. فهي عاجزة عن نقل والإفصاح عن المعاني النفسية
والعاطفية لهذا قبل :"ما أرخص الحب إذا أصبح كلاما " أو قول أخر " إن
كلماتي من ثلج فكيف تحويها النيران "
- مثل إيطالي ــــــــــــ 'المترجم الخائن'
- مثل صيني ــــــــــــ 'صورة واحدة خير من ألف تعليق '
-3- اللغة سر الإنسان مهما كانت حدودها ( مشكلة صدق اللغة ) :
مما لاشك
فيه أن اللغة قاصرة ويمكن أن تكون أداة خطرة إذا استعملت للكذب والتجريح
مما تسبب لنا الكثير من المشاكل ( كالتشاحن والخصام الناتج عن سوء التفاهم و
سوء استعمال الألفاظ فالحرب أولها كلمة كما يقال ) هذا ما بينه لنا ' محمد
عابد الجابري '.
لكن هذا لا يعني إنكار أهميتها بالنسبة للفرد أو المجتمع ، فهل بإمكان الإنسان الإبداع
والتعلم
بدونها ؟أو قيام حضارة أو توحيد الشعور بالانتماء إلى نفس الأمة بدونها ؟
فاللغة إذن هي التي تغني الفكر وتوسع أفاقه ومجالاته .كما أن الفكر يجعل من
اللغة أداة حية تتجدد باستمرار، وعليه نقول أن العلاقة بينهما هي علاقة
جدلية ، تبادلية ، تأثير و تأثر ، وجهان لعملة واحدة بالرغم من أن الفكر
أوسع من اللغة .
حل المشكلة العامة
إن اللغة
خاصية إنسانية كونها مرتبطة بالفكر ارتباطا لا انقطاع له ويبقى التواصل
الغاية الأولى والإنسان دائما تواقا الى العالمية كما أرادها العالم اللغوي
البولوني والطبيب زام نوف
"Zamenhof "
"Esperanto الذي ابتكر سنة 1887 لغة عالمية"
التي
تتضمن جميع اللغات في العالم حتى لا تطغى لغة على أخرى ، خاصة في ظل
العولمة في يومنا الحالي أين القوي يفرض ثقافته، لغته، نظامه، قيمه... على
الضعيف .