يغيب منتخب روسيا لكرة القدم عن كأس العالم المقبلة المقررة في جنوب أفريقيا 2010 بدءاً من الحادي عشر من حزيران/يونيو وللأمر وقعٌ صعب على أصعدة مختلفة خصوصاً بعد الطفرة الكبيرة التي جعلت روسيا معادلة كروية لها وزنها وثقلها كان المحنك الهولندي غوس هيدينك رائدها في المحافل القارية والعالمية.
سقط الاتحاد السوفياتي عام 1991 فكان تحرر الوريث الشرعي له روسيا من أربع عشرة دولة الأثر السلبي في انفراط العقد الرياضي عامة وبطبيعة الحال الكروي، خصوصاً أن ستة أندية فقط من الدوري الممتاز السوفياتي حملت الجنسية الروسية الجديدة مما اضطر اتحاد كرة القدم المحلي لترفيع أربع عشرة ناد من الفئة الثانية لإطلاق الـ"بريميير ليغ" الروسي, فكان سقوط فني كبير إنما منتظر ومنطقي.
عمل الاتحاد الروسي جاهداً لإعادة الهيبة لروسيا الكروية فأتى ثمار الكد يظهر بدءاً من أربع سنوات خلت مع بروز الأندية أوروبياً, سسكا موسكو وزينيت بطرسبورغ، ثم انسحب الأمر على أداء المنتخب بقيادة هيدينك مما أفضى لارتقاء روسيا تصنيفاً للمركز التاسع عالمياً في وقت ما (13 حالياً) وجعلها قوة صعبة المنال توّجت تألقها في أمم أوروبا 2008 مع بلوغ الدور نصف النهائي بعد مسار تاريخي هو الأفضل منذ الولادة التسعينية الجديدة.
صعود وسقوط
الظهور البرّاق لدبابير هيدينك أوروبياً جعل الاعتقاد ببلوغهم نهائيات مونديال جنوب أفريقيا تحصيل حاصل خصوصاً أن الطلب عليهم في كبرى الدوريات، الإنكليزي والألماني والإسباني نما باضطراد عاكساً التطور النوعي الفني والتكتيكي للاعب الروسي الذي طالما عرف بقدرات بدنية تفوق بأشواط المهارية إنما ليس في النصف الثاني للعقد الأخير حين باتت قدراته ناتج فني-بدني متساوٍ.
لكن الصعود الملموس والنوعي للاعبي الدولة القيصرية سابقاً قابله سقوط هائل سيتردد دويّه طويلاً خصوصاً أنه تمّ من علو شاهق استلزم بلوغه ما يقارب العقد والنصف لكن مغادرته تمّت بتسعين دقيقة فقط فأتت الصدمة قوية والإصابات أكثر من رضوض تشفى بأيّام, وقد تكون كسور ناجمة عن ترقق صامت.
أداء طيّب
بعد حلولها ثانية المجموعة الرابعة وراء ألمانيا في التصفيات الأوروبية المؤهلة للمونديال كان لزاماً على روسيا خوض الملحق الأوروبي فدخلته كأفضل منتخب ثان بين المجموعات الأوروبية التسع وكانت مرشحة فوق العادة لعبور العقبة السلوفينية التي، وإن بأداء دفاعي فقير فنياً، نجحت في تحجيم الدب وكسر شوكة رفاق أندري أرشافين نجم أرسنال الإنكليزي بخسارة في موسكو 2-1 وفوز في ليوبليانا 1-0 عبدا طريقها لظهور مونديالي ثان بعد 2002.
تأرجح أداء روسيا في التصفيات بين المتوسط والجيد والممتاز ولم يكن ما يدل على أنها لن تنجح في التأهل خصوصاً الثقة المفرطة التي طالما تحدث بها هيدينك وبعض لاعبيه فذهبوا بعيداً جداً ثم عادوا بسرعة جارين ذيول الخيبة، خصوصاً القدير الهولندي ابن الـ63 عاماً الذي قد يكون دفع ثمن ثقة الاعتقاد الزائد بالنفس وبالتالي قرارات ظنها صائبة اتضح أنها أصابته وفريقه في المقتل.
قدمت روسيا أداء طيباً في الذهاب في موسكو وكان بمقدورها الخروج بثلاثية نظيفة أقله لولا رعونة تهديفية يُلام عليها هيدينك كما يلام على سذاجة دفاعية كشفت عورتها إسبانيا مرتين في أمم أوروبا 2008 (4-1 في الدور الأول و3-0 في نصف النهائي) واستمرت جلية في التصفيات العالمية.
ضحية الأسماء
هجومياً وقع هيدينك ضحية الأسماء, فكان إشراك رومان بافليوتشينكو منقذ روسيا في مباراتها الشهيرة أمام إنكلترا في موسكو في تصفيات أمم أوروبا 2008 (2-1 لروسيا بهدفين للاعب توتنهام) خياراً خاطئاً تكرر مرتين في الذهاب والإياب.
فبافليوتشنكو وإن كان موهبة تهديفية نادرة روسياً ومطلوبة بقوة أوروبيا في الانتقالات الشتوية القادمة، فإنه افتقد الحساسية اللازمة لأي لاعب رأس حربة جرّاء جلوسه احتياطي في إنكلترا منذ بداية الموسم حيث لا يلعب إلا فيما ندر ولم يخض مباراة كاملة مع فريقه منذ شهور, لكن رغم ذلك دفع به الهولندي أساسياً ليظهر كظل للاعب أرعب دفاعات هولندا والسويد واليونان في أمم أوروبا 2008 ومن زوايا مختلفة.
الخيارات البديلة لهيدينك لم تكن أفضل حال فالبديلين الكسندر كيرزاكوف وبافل بوغربنياك هما بدورهما بعيدين عن مستواهما، الأول, لاعب إشبيليه الإسباني سابقاً، لم يسجل إلا هدفين مع فريقه دينامو موسكو في الدوري منذ آب/أغسطس الماضي والثاني لم يثبت نفسه مع فريقه الجديد شتوتغارت الألماني فكان له مكان محفوظاً على مقاعد الاحتياط لكن هيدينك وقع على الأرجح ضحية فوز بوغربنياك بلقب الهداف في كأس الاتحاد الأوروبي 2008 مع زينيت بالتساوي مع الإيطالي لوكا طوني, 10 أهداف لكل منهما.
البديل الأنجع والأكفأ لتولي قيادة الهجوم الروسي كان لاعب روبين كازان الكسندر بوخاروف الذي سجل ستة عشر هدفاً لفريقه في الـ"فيسكايا" هذا الموسم فارضاً نفسه أخطر مهاجمي روسيا الحاليين, لكن الهولندي لم يستدعه حتى للمنتخب ولم يعره انتباهاً في لقاءي الحياة أو الموت.
دفاع ساذج
أما دفاعياً فيبدو أن المدرب الهولندي الذي سبق وقاد منتخب بلاده وكوريا الجنوبية لنصف نهائي مونديالي 1998 و2002 على التولي, عجز عن رفع شأن صلابة قلبي دفاعه تحديداً فاسيلي بيريزوتسكي وسيرغي ايغناشيفيتش اللذين طالما وقعا ضحية سوء قراءة خطط المنافسين وارتكبا الهفوات "الحمقاء والساذجة" كروياً (كما حصل في الذهاب والإياب مع سلوفينيا)، والتي وبلحظة بصر تنسف كل ما يعزفه الوسط الروسي من أداء سريع هجومي وأنيق, علماً أنه أقوى خطوط المنتخب ومفتاح انتصاراته، فتنقلب المباراة دون أي إخطار مسبق ينبئ بذلك.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ أن تكتيك هيدينك في لقاء سلوفينيا الأخير فاجأ المراقبين الروس, إذ أقدم على الدفع بلاعب لوكوموتيف موسكو رينات يانباييف (7 مباريات دولية) في مركز الظهير الأيسر وتقديم ظهير تشلسي الإنكليزي يوري زيركوف كلاعب وسط للاستفادة من سرعته ومهاراته العالية في الاختراق في المرتدات ولجأ إلى سحب المخضرم سيرغي سيماك الأساسي دائماً، فكانت خطة 4-2-3-1 الجديدة والتي أظهرت فشلاً ذريعاً خصوصاً أنها كبلت الظهيرين انيوكوف على الميمنة وريباييف ولطالما اعتاد هيدينك على تقدم لاعبي مركزي الظهير لزعزعة دفاعات المنافس.
تكبيل ارشافين
انسحبت أضرار هذه التشكيلة الجديدة "رسمياً" بتوقيت سيء جداً على اندري ارشافين الذي لا يرتاح إلا باللعب حراً متنقلاً بين الجناحين والوسط فكان عاجزا عن إيجاد نفسه بعد تقليص المساحات أمامه، خصوصاً مع ثبات زيركوف في محوره الهجومي اليساري علماً أن الأخير ورغم أنه كان من أفضل اللاعبين الروس لم يستطع الانسجام مع هذه الخطة إذ أنه كان مبتعداً عن الملاعب بسبب الإصابة وظهر عليه التعب كثيراً في المباراة الثانية (بعد الذهاب بـ4 أيام)، فكان استفهام حول الاعتماد عليه أساسياً لـ180 دقيقة في أربعة أيام وهو لم يلعب مع تشلسي منذ ما يقارب الشهر.
ومع الغضب الذي قضّ مضاجع الروس بعد الخروج الواهن الذي كان أشبه بالضربة القاضية في الملاكمة, تعالت أصوات ناقدة طالت المدرب المحصن بنتائج رائعة واكبته أينما حط، ما دفع بالبعض بتسميته بـ" هيدينك المحظوظ" وقد لامه كثيرون على عدم مكوثه طويلاً في روسيا إذ غالباً ما كان يقضي وقته خارجها، كما ذهبت بعض الآراء للقول إن استلامه تدريب تشلسي الإنكليزي الموسم الماضي خلفاً للمقال وقتها البرازيلي لويس فيليبي سكولاري شتت اهتمامه بين "ستامفورد بريدج" و"لوجنيكي" خصوصاً أن التحضير لا يكون وليدة شهر إذ يحتاج إلى جانب التفرّغ، متابعة دائمة، وقد يكون الروس دفعوا ثمنها خصوصاً أنهم بنفس عناصر "يورو 2008" بدا وكأن عطاءهم انحدر أقله للنصف مع التنويه دائماً أن الكلام والتحليل أسهل من الفعل والتنفيذ.