الحس المشترك في الفيزياء
الحس المشترك في الفيزياء
بسم الله الرحمن الرحيم
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))[1].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))[2].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ))[3].
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .
وبعد : فهذا عرض لموضوع ( الحس المشترك في الفيزياء ).
"العالم حقا من يستشكل الواضح
ويوضح المشكل لسعة فهمه وعلمه"[4]
1. الإشكالية:
نحاول من خلال (الدراسة) المعنونة: "الحس المشترك في الفيزياء" الوقوف على دور الحس المشترك في الفيزياء، لكن من الخطورة بمكان أن نخوض في هذا الموضوع دون الإحاطة بجميع جوانبه ونواحيه، فلا شك أنه من الواجب أن نطرح بعض الأسئلة التي ستقودنا محاولة الإجابة عنها إلى الإحاطة بالموضوع: ما هو الحس المشترك وما علاقته بالفيزياء؟، أو بالأحرى: ما علاقة الإدراكات بالفيزياء؟، قبلا، ما هي الإدراكات وما هي مراتبها في التجريد؟، لذلك سنتدرج في الإجابة عن هذه الأسئلة.
2. علاقة الإدراكات بالفيزياء:
يتشكل بناء الفيزياء من نماذج مختلفة، مهمتها التعبير بصيغة موجزة عن النظرة التي تتشكل لدينا عن الظواهر الفيزيائية، هذه النماذج التي هي في الحقيقة ثمرة القوى المدركة على اختلافها ومراتبها في التجريد.
بعيدا عن الإكتفاء بالقول أن الفيزياء علم تجريبي، يجب التدقيق في أمر هذا العلم من حيث أسسه المنطقية، فالنماذج التي نكونها عن الظواهر الفيزيائية هي نتاج للقوى المدركة، فأي هذه القوى المدركة المقصود يا ترى، هل هي المدركات الحسية أو العقلية، وأيهما الأسبق؟
إن الطبيعة التجريبية لعلم الفيزياء تجعل من أحكامه أحكام تجريبية أو بالأحرى:"عادية" تنطلق من معطيات حسية، أي ما يصطلح عليه بالقانون التجريبي، يعرف الإمام السنوسي -رحمه الله- في "أم البراهين" الحكم العادي بـ:" أما الحكم العادي فحقيقته إثبات الربط بين أمر وأمر وجودا أو عدما بواسطة تكرار الأمرين بينهما على الحس"
إذا فالفيزياء موضوعها الموجودات الحسية التي يدركها الإنسان عن طريق المدركات الحسية، التي هي الأساس في إدراك هذا القسم من الموجودات، وأداتها الإستقراء الذي هو أساس المنهج التجريبي، يعرف الشريف الجرجاني الاستقراء :" هو الحكم على كليٍّ بوجوده في أكثر جزئياته، وإنما قال: في أكثر جزئياته، لأن الحكم لو كان في جميع جزئياته لم يكن، استقراءً، بل قياساً مقسماً، ويسمى هذا: استقراء، لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات، كقولنا: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك، وهو استقراء ناقص لا يفيد اليقين لجواز وجود جزئي لم يتستقرأ، ويكون حكمه مخالفاً لما استقرئ كالتمساح، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ."
ما دام قد ثبت بأن للفيزياء علاقة مباشرة وغير منقطعة بالمدركات في شقها الحسي، فمن الواجب علينا الوقوف على هذه المدركات ومراتبها في التجريد.
3. الإدراكات ومراتبها في التجريد:
يعرف الشريف الجرجاني في الإدراك بأنه: "إحاطة الشيء بكماله، وهو حصول الصورة عند النفس الناطقة، وتمثيل حقيقة الشيء وحده من غير حكم عليه بنفي أو إثبات، ويسمى: تصوراً، ومع الحكم بأحدهما يسمى: تصديقاً."
يرى الإمام الغزالي -رحمه الله- في "معارج القدس في مدارج معرفة النفس" -الكتاب الذي ضمنه نظريته الفريدة حول النفس- عند تعرضه لبيان القوى المدركة في شقها الحسي التي هي عبارة عن قوى جسمانية محلها الدماغ، بأن هذه القوى المدركة: " منقسمة بالقسمة الأولى إلى قسمين: مدركة من ظاهر ومدركة من باطن...."، إذا فالقوى المدركة الحسية تنقسم إلى قسمين رئيسيين: مدركة من ظاهر، ومدركة من باطن، ناتي أولا لأمر القوى المدركة من ظاهر:
1. الإدراك الظاهري:
فالقوى المدركة من ظاهر -حسب الإمام الغزالي دائما- تنقسم خمسة أقسام التي هي الحواس الخمس: اللمس، الشم، الذوق، البصر والسمع. ما سنتعرض إليه من هذه الحواس بشيئ من التفصيل الحاستان الأخيرتان: البصر والسمع، لارتباطهما بعلم الفيزياء فهما أول المستقبلات للمعطيات الحسية التي تكون الأساس للنموذج الفيزيائي، كون الصوت هو الظاهرة الفيزيائية التي تؤثر على حاسة السمع، والضوء هو الظاهرة الفيزيائية التي تؤثر عن حاسة البصر، كما يجب أن لا نغفل عن أن الحرارة والبرودة هما الظاهرتان الفيزيائيتين المؤثرتين على حاسة اللمس، كذلك الروائح والطعوم هي الظواهر الكيميائية –الفيزيائية- المؤثرة على حاستي الشم والذوق.
أ. حاسة البصر:
يذكر الإمام الغزالي أولا وجه منفعة هذه الحاسة، ثم يضيف بأنها "قوة" ويذكر محلها، ليعرج في الأخير بشيئ من الشرح والتفصيل حول آلية الرؤية، ليذكر دور الحس المشترك: "فيدرك الحس المشترك من الصورتين المتحدتين صورة واحدة وإلا كان يجب أن يرى شيئين إذ الصورة في الجليدية صورتان"، إذا فالحس المشترك يلعب دور المجمع والموحد فيوحد الصورتين المنطبعتين على الشبكية. لم يغفل الإمام الغزالي عن الإشارة إلى طبيعة الصورة الواقعة على الشبكية-التعرض لنظرية الإبصار-، التي تقود إلى التعرض لطبيعة الضوء وانتشاره المستقيم:"ولا تظن أنه ينفصل من المتلون شيئ ويصل إلى العين، ولا أن ينفصل من العين شعاع فيمتد إلى المتلون، لكن يحدث صورة في الصقيل المستعد لقبول الصورة بشرط المقابلة مع توسط الشفاف.."
ب. حاسة السمع:
بنفس نسق حديثه عن حاسة البصر، يتدرج الإمام الغزالي في الحديث عن حاسة السمع، فنجده يقر الطبيعة الموجية للصوت: "... يتأدى إليه بتموج المنضغط من قرع أو قلع انضغاطا بعنف يحدث منه صوت يتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويحركه بشكل حركته فتماس الأمواج..."، كذلك تتأدى الصورة السمعية إلى الحس المشترك.
* بعد حديثه عن هاتين الحاسيتين ينتقل إلى المقابلة بينهما فيرى:" كما أن الضياء شرط في الإبصار كذلك الهواء في السمع"، أي أن الهواء يقابل الضياء في كونهما شرطان لهاتين الحاستين، فهل الضياء هو الوسط الذي تنتقل فيه الصور البصرية كما تنتقل الأصوات في الهواء؟، ليطرح إشكالية أخرى: "والسمع إنما يسمع من محيط الدائرة، والبصر إنما يبصر من على خط مستقيم......، حتى ظن ظانون أن تلك الخطوط أشعة منبعثة من البصر إلى القاعدة أو صور مقبوضة من القاعدة إلى البصر، وكلا الوجهين خطأ...".
ما دمنا وقفنا على هذه الحواس وجب علينا التعريج على بعض من خصائصها:
· تقبل هذه الحواس صورة المحسوسات دون مادتها، وهذه الصورة تزول دون شك بزوال المحسوس، يقول أرسطو: "إن عضو الحس يقبل صور المحسوسات دون مادتها، كما يقبل الشمع صورة الخاتم دون الحديد أو الذهب"، كما أن الصورة المنطبعة في الحواس تحمل معها لواحق المحسوسات كالشكل، الحجم (العظم والصغر)، الحركة، السكون، اللون، العدد والمقدار بالنسبة للبصر. أما السمع فالصورة السمعية تحمل معها: عدد الأصوات، قوة الصوت، حركة المصوت وسكونه....
· قصور هذه الحواس فهي لا تلتقط إلا جزءا يسيرا من الظواهر الخارجية (المجالات المحددة لتواترات الأضواء المرئية والأصوات المسموعة) ، هذا القصور الذي لا يمكن أن يعتبر نقيصة، بل هو رحمة من عند المولى عز وجل لحمايتنا وراحتنا. كما أن الإنسان قد وجد البديل لتفادي هذا الضياع في المعطيات الحسية من خلال وسائل مستقبلة عديدة (المجاهر، الكواشف،...).
· تعتبر الحواس المنبع الوحيد لسيلان الفكر، فهي المصدر الوحيد لما يدور في أذهاننا فيما يتعلق بالعالم المحسوس[5]، فلا يمكن لشيئ أن يوجد في الذهن دون أن يمر على الحواس، إذا فهي بمثابة جهاز إستقبال للإنسان، دون أن تلعب دور جهاز إرسال فهي لا تنقل شيئا إلى خارج ذواتنا.
* ما دمنا وقفنا على أن لهذه الحواس الظاهرة حدودا لا يمكن أن تتعداها، وأنها لا تتصرف في صورة المدرك، إذا فهذه الحواس الظاهرة قد قامت بأول تجريد، فهي لا تنقل المحسوس وإنما صورة عنه دون فصل أو انتزاع شيء عن المحسوس، يرى الإمام الغزالي: "الإدراك أخذ مثال حقيقة الشيئ لا الحقيقة الخارجية، فإن الصورة الخارجية لا تحل المدرك بل مثال عنها، فإن المحسوس بالحقيقة ليس هو الخارج بل ما تمثل في الحاس، فالخارج هو الذي المحسوس انتزع منه، والمحسوس هو الذي وقع في الحال فشعر به."، لذلك فلا بد من تجريد أكبر لهذه الصور الحسية، هذا التجريد الذي لن يكون إلا من خلال امتداد لهذه الحواس الظاهرة.
2. الإدراك الباطني:
تقسم القوى المدركة من باطن قسمة أولى إلى ثلاثة أقسام: ما يدرك ولا يحفظ، ما يحفظ ولا يعقل، وما يدرك ولا يتصرف، التي يقسمها بدورها إلى: ما يحفظ الصورة أو المعنى، ما يدرك الصورة أو المعنى، وما يتصرف في الصورة أو المعنى، كما يقسمها أيضا إلى: مدرك بغير واسطة أو مدرك بواسطة مدرك آخر. مع التوضيح بأن الفرق بين الصورة والمعنى: هو أن الصورة ما يدركه الحس الباطن بعد أن يدركه الحس الظاهر، بعكس المعنى الذي يدركه الحس الباطن دون المرور على الحس الباطن. هذه الحواس الظاهرة يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1. الحس المشترك، 2. الخيال، 3. الوهم، 4. الوهم، 5. الحافظة أو الذاكرة، 6. التخيل.
لن نخوض في بيان هذه الحواس وتفصيلاتها، بل سنكتفي بألصق هذه الحواس الظاهرة بالحواس الباطنة، الذي هو الحس المشترك، الذي سنعرض تفصيله وبيان إثباته ومحله.
4. الحس المشترك:
هو الحس الباطن الذي تجتمع عنده جميع المحسوسات المستحضرة في الحواس الظاهرة، فهو بمثابة المركزية (centrale) لهذه الحواس. ففيه تجتمع صور المحسوسات المتماثلة: كالصورتين في العينين والصورتين في الأذنين، والمحسوسات المختلفة: كصورة وصوت محسوس معين. فعن طريقه ننسب الحركة والألوان والأصوات للأجسام....، لذلك فهو يلعب دور مجمع وموحد للإدراكات الحسية الظاهرة، وهو من حيث التقسيمات السابقة مدرك للصورة لا يحفظ ولا يتصرف خازنه الخيال، ومن خواصه: "استحضار المحسوسات في الحواس أولا ثم إدراكها ثانيا،.. أنها تدرك الجزئيات الشخصية دون الكليات العقلية،.. تحس باللذة والألم من المتخيلات كما تحس باللذة والألم من المحسوسات الظاهرة". إذا فالحس المشترك لا يدرك إلا بحضور صور المحسوسات في الحواس الظاهرة سواء في حالة الإحساس المباشر أو التخيل، فهو إذا يتمتع بخاصة انعكاسية. أما آلتها ومحلها:"الروح المصبوب في مبادئ عصب الحس لا سيما في مقدم الدماغ."
1. أمثلة على وجود الحس المشترك:
- رؤية النقطة الدائرة بسرعة على شكل دائرة.
- رؤية قطرات المطر النازلة بسرعة من السماء خطا مستقيما.
* تفسير:
السبب يرجع لانطباع صورة المتحرك في الحس المشترك، وقبل انمحاء هذه الصورة منه تنطبع صورة أخرى جديدة وهكذا دواليك، بمعنى أن سرعة توالي (تغير) الصور في الحس المشترك أقل وأضعف من سرعة وصول الصور إليه، فهو يعد بمثابة مبطئ أو مخمد لجريان الصور الحاضرة في الحواس الظاهرة.
2. تجربة ستراتون: التجربة التي تثبت وجود الحس المشترك وتحكمه في الحواس الظاهرة
التجربة:
قام الفيزيائي الأمريكي ستراتون بإعداد نظارات خاصة، عدساتها عبارة عن مواشير، بحيث تقلب صور الأجسام رأسا على عقب، حيث أن مرتديها يشاهد صورة العالم مقلوبا: السماء في الأسفل، الأرض في الأعلى، الماء يصعد نحو الأعلى، النار تنزل نحو الأسفل....
ما قام به الفيزيائي ستراتون هو ارتداؤه لهذه النظارات لمدة ثلاثة أيام متتالية دون انقطاع، ليشاهد صورة العالم مقلوبا، لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال، إذ مع اسيقاظه في اليوم الرابع حدثت المفاجأة المذهلة: فقد رجعت الأمور إلى طبيعتها الأولى (سبحان الله) فلم يشاهد صورة العالم مقلوبا على الرغم من ارتدائه للنظارات.
المناقشة:
إن هذه التجربة لدليل واضح على عظمة الله تعالى التي تتجلى في خلقه، فقد خلق الله تعالى السماء في الجهة العلوية والأرض في الأسفل و....، وجعل في الإنسان قوة تراقب الحواس الظاهرة وتصحح أخطاءها، لذلك فهذه التجربة تثبت سلطة الحس المشترك على الحواس الظاهرة، فقد أرغم هذا الحس المشترك الحواس الظاهرة على إعادة الأشياء إلى طبيعتها وصحح أخطاءها.
إن نتائج هذه التجربة دليل واضح على أن إدراكات الإنسان فعالة وليست مستقبلات خاملة فقط، أي أنها تعالج الصور الحسية الواردة إليها –كحال الحس المشترك-، والمقصود بالمعالجة ليس الإضافة أو الحذف فهو لا يتصرف فيها، بل هي وظيفة وقدرة فوق الحس (المحسوس). إذ أن المحسوس يتوقف عند الفيزياء أو العكس، فالصورة يقلبها الموشور لكن إدراكات الإنسان تتجاوز الفيزياء، فمواضع الأشياء عندها ليست بالتقليد وإنما هي ثابتة بينة لا تحتاج للمعطيات الحسية[6].
3. ملاحظات حول الحس المشترك:
- كما رأينا بأن الحس المشترك يوحد بين الإدراكات ويجمعها فيصحح أخطاء الإدراكات الظاهرية إلا أنه يوقعنا في الخطأ أحيانا، كحال حركة النقطة السريعة، الأمر الذي يوجب المزيد من التجريد، فلا بد من تدخل العقل ليصحح ويدقق إدراكات هذا العون من أعوانه.
- هذا الخطأ لا يمكن أن يعد نقيصة، فمن نعم الله تعالى علينا أن جعل لنا هذا المخمد لتسارع توالي الصور الحسية، حتى لا تتشتت أذهاننا بمتابعتها...
5.الحس المشترك في الفيزياء:
ربما من خلال محاولتنا السابقة الوقوف على القوى المدركة وعلاقتها بالظواهر الفيزيائية، وبالأخص الحس المشترك، سنستطيع مناقشة بعض المسائل المشكلة في الفيزياء، كمسألة الرؤية والألوان، طبيعة الضوء الأبيض....
* خزروف بن الهيثم:
اهتم الإنسان منذ القديم بظاهرة الإبصار الأمر الذي قاده إلى التعرض لطبيعة الضوء فاختلفت التفسيرات وتعارضت الأراء، لكننا لم نقف على نظرية واضحة للإبصار إلا من خلال أعمال العالم المسلم الفذ الحسن بن الهيثم خلال القرن الحادي عشر الميلادي التي صححت ونقحت آراء من سبقوه في هذا المجال، وجاءت مبنية على أسس تجريبية متينة، فألغى نظريات العلماء الإغريق التي تتحدث عن انفصال الصور عن الأجسام، أو الأشعة عن العين. كما قام بالتأكد تجريبيا من مبدأ الإنتشار المستقيم للضوء، وأعاد صياغة قانون الإنعكاس وأضاف القانون الثاني للإنعكاس، كما وضع أحد قوانين الإنكسار...، كما تنبه إلى طبيعة الضوء والألوان، فكان أول من فسر ظاهرة قوس قزح..إلخ
* الإعتقاد أو "النظرية" السائدة اليوم، هي أن "الضوء الأبيض عبارة عن مزيج من ألوان الطيف السبعة، فيقال الضوء: الأبيض، الأحمر،....."، هذا الإعتقاد الراسخ جاء نتيجة تجربة أجراها العالم الإنجليزي نيوتن:
التجربة1:
داخل غرفة عاتمة (مظلمة) وعن طريق ثقب صغير في باب الغرفة، يتم الحصول على شعاع من "الضوء الأبيض". يتم وضع موشور "جسم زجاجي مصمت شفاف" في طريق هذا الشعاع.
الملاحظة: بعد عبور "الضوء الأبيض" للموشور نحصل في الجهة المقابلة على مجموعة متباينة من الأشعة الضوئية المنكسرة تشكل ألوان الطيف السبعة أو "الألوان المرئية".
الاستنتاج: كاستنتاج أولي: "الضوء الأبيض يتشكل من ألوان الطيف المرئي السبعة المتباينة."
تعليق: لا يمكن تبني أن: "الضوء الأبيض يتكون من ألوان الطيف المرئي السبعة المتباينة." كقانون علمي، بل نأخذه كفرضية يجب التأكد من صحتها تجريبيا.
التجربة2:
نقوم بإحضار خزروف دائري يحتوي على ألوان الطيف السبعة بحيث تتوزع هذه الألوان بانتظام على المساحات التي تحدها أنصاف أقطاره وأقواس متساوية الطول.
ندير هذا اخزروف بسرعة، بعد تجاوز سرعة دوران معينة، لن نستطيع تمييز هذه الألوان، بحيث لن نرى سوى اللون الأبيض. كما أننا سنلاحظ الزخروف وكأنه ساكن.
استنتاج: "الضوء الأبيض يتكون من ألوان الطيف المرئي السبعة المتباينة."
نقد: نستطيع قبول هذا الإستنتاج في حال كنا لا نعي الإرتباط الوثيق بين الظاهر الفيزيائية والقوى المدركة، فعلينا أن ننتبه عند معالجة ملاحظاتنا إلى دور الحس المشترك في توحيده بين الألوان المختلفة. عليه يمكن أن نضع فرضية جديدة:
"الضوء الأبيض ناتج عن مزج الحس المشترك لألوان الطيف المختلفة"
التجربة3:
اقتراح عزل تأثير الحس المشترك، عن طريق إستعمال جهاز تجريبي يقوم بقياس أطوال الموجات الأضواء المستقبلة، بدل الإعتماد على الحواس.
في تجربة الخزروف: يسجل الجهاز جميع أطوال موجات الطيف، دلالة على وجودها منفصلة، فماهو طول موجة الضوء الأبيض يا ترى؟
في تجربة الموشور: الملاحظة نفسها عند إمرار شعاع من الضوء الأبيض في الجهاز قبل وبعد الإنكسار ستلاحظ نفس الطيف.
قانون علمي:
"لا وجود للضوء الأبيض، إلا في أذهاننا نتيجة الحس المشترك، أما في الطبيعة –خارج ذواتنا- فتوجد الألوان المختلفة منفصلة تماماعن بعضها البعض"
* هام: ما هو اللون، وهل للضوء لون؟
يعرف اللون: "هو ما ليس بأبيض ولا أسود."
يرى الإمام الغزالي:
" كما أن الضياء شرط في الإبصار كذلك الهواء في السمع"
انطلاقا من هذا الرأي سنحاول التدقيق في طبيعة الضوء: فالهواء يقابله الضياء في كونه الوسط الذي تنتشر فيه الأمواج "الضوئية"، أي أن الألوان المختلفة ما هي إلا اضطرابات مختلفة تنتشر في الضياء، كحال الاضطرابات الصوتية في الهواء. كما أننا لا نستطيع إدراك الضياء دون وجود الأجسام، فلا يمكن تمييز الشفاف دون وجود الجسم المختلف عنه.
إن قبولنا بهذه الفرضية، يجعلنا في غنى عن العديد من المتناقضات التي تكتنف الفيزياء اليوم: فـ"الأثير" هذا الكائن المحير عثرنا عليه أخيرا، فهو الضياء عينه. كما أن هذه الفرضية تضعنا في غنى عن القول بـ"الفراغ"، فالأمواج "الضوئية" لن تنتشر في الفراغ الذي لا وجود له إلا في الوهم، وإنما تنتشر في وسط يملؤ العالم هو "الضياء". هذا الأثير[7]الذي هو واضح بيّن أغفلته التجارب تلو التجارب.
6.خاتمة:
حاولنا الوقوف من خلال هذا العمل على العلاقة الوثيقة بين الفيزياء كعلم تجريبي والقوى المدركة خاصة منها الحس المشترك، وحاولنا إثبات التأثير الخطير له في تشكيل النماذج الفيزيائية، وقد تتبعنا بالتحقيق والتدقيق مسألة وجود الضوء الأبيض، وطبيعتة.
أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية، ومناقشتها علمياً بما يفيد، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
7.أهم المراجع والمصادر:
1. جمال حواتيس، النماذج الفيزيائية: دراسة علمياتية وتعليمياتية، أطروحة ماجستير في طرائق التدريس، قسم الفيزياء، المدرسة العليا للأساتذة القبة، الجزائر جوان2001.
2. الإمام أبوحامد الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس.
3. الشريف الجرجاني، التعريفات.
4. Gérard Tiry, Connaître le réel.
الهوامش:
[1][آل عمران:102]
[2][النساء:1]
[3][الأحزاب:70-71]
[4]الإمام السنوسي رحمه الله.
[5] لفتة:
- نعم الحواس هي الوسيلة الأولى، لكن العقل قادر على إدراك أشياء، لم تمر على الحواس: "فليس كل موجود يرى" وذلك بضرب الأمثال بالمحسوس.
- العقل يؤمن بالمغيبات: الجنة، النار و العرش....، دون مرورها على الحواس، والحس يساعد على إدراكها (العقل يدركها بمدد آخر).
[6] لفتة:
- من خلال هذه التجربة المثيرة، نقف على أمر خطير: مركزية الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يتذرع بجهل الأمور، أو يبرر الوقوع في الخطأ كنتيجة للأغلاط التي تصيب المشاهدات. بل إن الله تعالى قد أودع في الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، برغم فساد المحيط.
[7] لفتة: إن القبول بفرضية أن الأثير هو الضياء عينه، يفتح المجال لإعادة النظر في قوانين "النظرية النسبية الخاصة"، بما سيغير ربما الكثير من نظرتنا نحو الكون المحيط بنا في ظل الفيزياء.