تعد معاهدة "سان إستيفانو" من
المعاهدات المهمة في تاريخ الدولة العثمانية، حيث فرضت هذه المعاهدة على
العثمانيين المهزومين أمام روسيا إدخال إصلاحات جوهرية على أوضاع المسيحيين في
الدولة العثمانية، خاصة في أوربا؛ وهو ما عني حقوقا وامتيازات للأقلية لا تتمتع
بها الأغلبية المسلمة، وكان ذلك يشير إلى رغبة الدول الأوربية في تفجير الدولة
العثمانية من الداخل بعد إضعافها للغاية في المحيط الدولي، بحيث تمثل "رجل
أوربا المريض" الذي ينتظر الجميع موته لتقسيم تركته الكبيرة.
والمعاهدة تقترب في روحها العامة من
المشروع الذي خرجت به الولايات المتحدة في بداية شهر مارس 2004 وأسمته "الشرق الأوسط الكبير"
الذي كان عنواناه الرئيسان هما: الإصلاح الداخلي في دول المنطقة بإدخال تعديلات
ديمقراطية وتوسيع مجال الحريات الممنوحة لشعوب المنطقة، والعنوان الثاني في
المشروع الأمريكي هو السلام بين الوحدات المكونة للشرق الأوسط؛ وهو ما يعني
استيعاب إسرائيل كإحدى دول المنطقة، مع احتفاظها بموقع الصدارة.
البلقان.. برميل البارود
منطقة البلقان في قلب أوربا هي برميل
البارود القابل للاشتعال دوما؛ ففي تلك الفترة التاريخية شهدت المنطقة ثورات ضد
الدولة العثمانية، حيث قام سكان الصرب والجبل الأسود بثورة ضد العثمانيين في عام
(1293هـ=1876م)، إلا أن الدولة العثمانية استطاعت إخمادها، وأدرك السلطان "عبد الحميد"
رغبة الدول الأوربية في التدخل في الشئون الداخلية للدولة، فأراد قطع الطريق
عليهم، وأدخل عددا من الإصلاحات الداخلية؛ فأصدر قرارا بفصل القضاء عن السلطة
التنفيذية، وتعيين القضاة بالانتخاب عن طريق الأهالي، والمساواة في الضرائب بين
المسلمين والنصارى.
غير أن هذه الإصلاحات لم ترق للصرب
وغيرهم؛ فعادوا إلى الثورة من جديد، ولكن في ظل مساعدات خارجية من بعض الدول
الأوربية، مثل النمسا التي كانت ترغب في ضم منطقة "البوسنة والهرسك"
إليها، كما قامت ست دول أوربية كبرى بسحب سفرائها من إستانبول ووقعت "برتوكول
لندن" في (17 من ربيع الأول 1294 هـ=31 مارس 1877م) الذي يعرض تأمين حدود
الدولة العثمانية مقابل قيامها بإجراء بعض الإصلاحات في الممتلكات العثمانية في
البلقان لصالح الرعايا المسيحيين.
لكن الدولة العثمانية رفضت مطالب هذا
البرتوكول، وقامت بعقد صلح منفرد مع الصرب، سحبت على إثره جيوشها من بلاد الصرب،
واشترطت أن يرفع العلم العثماني بجوار العلم الصربي؛ كدليل على استمرار السيادة
العثمانية.
وكان القيصر الروسي "ألكسندر
الثاني" قد أبلغ العثمانيين أنه لا يريد الحرب؛ وأن ما يطلبه هو إعطاء منطقة
معينة إلى البلغار، وبهذا فقط يمكن إرضاء الوطنيين السلاف الموجودين في روسيا
والذين يريدون الحرب. يقول المؤرخ التركي "يلماز أوزتونا": "صار
رفض الباب العالي لهذا الاقتراح الأخير فاجعة في التاريخ العثماني"، فنشبت
الحرب الروسية- العثمانية، المعروفة بـ"حرب 93" التي بدأت في (11 من
ربيع الآخر 1294 هـ= 24 إبريل 1877م)، وكانت أكبر حرب عالمية جرت في تلك الفترة.
وقد حاربت الدولة العثمانية في هذه الحرب
كلا من روسيا، ورومانيا التي أمدت الروس بمائة ألف مقاتل؛ رغم العداء المعروف بين
الجانبين، وحقق الروس انتصارات في البلقان رغم الدفاع البطولي الذي أبداه
العثمانيون، وفتحت هذه الانتصارات شهية الروس لمحاولة القضاء
على الدولة العثمانية؛ فتحركت
القوات الروسية صوب العاصمة "إستانبول"، ووقفت على بعد خمسين كيلومترا
منها، ووقعت معارك بين الروس والعثمانيين في آسيا، واستطاع الروس الوصول إلى
الأناضول.
وأمام تلك الهزائم الكبيرة والمتلاحقة
اضطر العثمانيون لتوقيع معاهدة "سان إستيفانو" التي وقعها عن الجانب
العثماني "صفوت باشا" وهو يبكي، واحتوت شروطا مجحفة بالدولة العلية
العثمانية.
بنود.. وتعديل .. ومحو
استمرت "حرب 93" حوالي تسعة
أشهر خسرت الدولة العثمانية غالبية أراضيها في أوربا، ولم يتبق لها إلا القليل من
الممتلكات، وأمام هذه المأساة اضطر السلطان "عبد الحميد" أن يطلب من
ملكة بريطانيا "فيكتوريا" التوسط لعقد هدنة، إلا أن الروس رفضوا في
البداية وصمموا على استمرار القتال، فقرر العثمانيون الدفاع المستميت عن إستانبول،
ومن ناحية ثانية تكتلت الدول الأوربية ضد روسيا التي بدت أطماعها في الوصول إلى
المياه الدافئة تتحقق في هذه الحرب. وألقى الأسطول الإنجليزي بمراسيه في مياه
إستانبول، وكانت هذه الرسالة التحذيرية من بريطانيا عاملا مهما في دفع الروس
للتفكير في الهدنة ووقف الحرب.
أرادت روسيا المنتصرة أن تملي شروطها على
الدولة العثمانية المغلوبة في معاهدة "سان إستيفانو" (وهي ضاحية من
ضواحي إستانبول على الضفة الأوربية من بحر مرمرة)، وتكونت هذه المعاهدة التي لم
ُيعمل بأي نص من نصوصها، من 29 مادة، حيث إن هذه المعاهدة المجحفة تم تعديلها بعد
4 أشهر و11 يوما بمعاهدة أخرى هي معاهدة برلين التي محت كثيرا مما جاء في
"سان إستيفانو".
ومما نصت عليه "سان إستيفانو":
- تعيين حدود للجبل الأسود لإنهاء
الصراع، مع حصولها على الاستقلال.
- حصول إمارة الصرب على استقلالها، مع
إضافة بعض الأراضي الجديدة إليها.
- حصول بلغاريا على استقلال ذاتي إداري،
مع دفع بلغاريا مبلغا من المال سنويا للدولة العثمانية، ويكون موظفو الدولة في
بلغاريا والجند من النصارى فقط، ويخلي العثمانيون جنودهم منها نهائيا.
- حصول رومانيا على استقلالها التام.
- يتعهد الباب العالي بحماية الأرمن
والنصارى من الأكراد والشركس.
- يقوم الباب العالي بإصلاح أوضاع
النصارى في جزيرة كريت.
- تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية
قدرها 250 مليون ليرة ذهبية لروسيا، ويمكن لروسيا أن تتسلم أراضي بدلا من هذه
الغرامة.
- تبقى مضايق البوسفور والدردنيل مفتوحة
لروسيا وقت السلم والحرب.
- يمكن لمسلمي بلغاريا أن يهاجروا حيث
يريدون في الدولة العثمانية.
وقد حال السلطان "عبد الحميد"
دون إعطاء روسيا 6 بوارج بحرية من أحدث سفن الأسطول العثماني كجزء من الغرامات
لروسيا.
أثر.. وردود فعل
أدت هذه المعاهدة إلى محو الوجود التركي
في أوربا باستثناء بعض المناطق القليلة غير المتصلة، والضعيفة من الناحية
الإستراتيجية، كما أن نمو بلغاريا وتوسيع مساحتها يعني التأثير على مدينة
"الآستانة" من الناحية الإستراتيجية حيث تحيط بلغاريا بكثير من جوانبها،
إضافة إلى أن اشتراط المعاهدة بقاء قوات روسية في بلغاريا لمدة سنتين يعني أن
عوامل الخطر تحيط بالدولة العثمانية، كما أن عملية البتر التي تمت لبعض المناطق من
جسد الدولة العثمانية في أوربا كان يعني أن تنسلخ هذه المناطق بما فيها من مسلمين
لتنضم إلى كيانات معادية لهؤلاء المسلمين.
اختلفت ردود أفعال الدول الكبرى على
معاهدة "سان إستيفانو" التي ُتؤمن لروسيا تفوقا في البلقان على حساب
الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا، وتمكن روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة
والبحار المفتوحة، فكانت إنجلترا من أكثر الدول تخوفا من هذا التمدد الروسي خوفا
من السيطرة الروسية على مضيق "البوسفور" ومن وصول النفوذ الروسي إلى
الهند، ولهذا كانت لندن من أشد الدول المعارضة لهذه الاتفاقية، ومن الدول الساعية
إلى تعديلها رغما عن روسيا، حتى تظهر أمام الهنود بمظهر القوة والبأس ونفوذ الكلمة
في أوربا، وتتودد أيضا إلى مسلمي الهند، حيث كانت سلطتها في الهند مبنية في الأساس
"على الوهم أكثر من قوة السلاح" كما يقول "محمد فريد" في
كتابه "الدولة العثمانية".
كذلك عارضت النمسا هذه الاتفاقية، حيث
كانت تطمع في "البوسنة والهرسك". أما فرنسا فكانت على الحياد بعد
هزيمتها في الحرب البروسية ورغبتها في تعويض ما فقدته من خسائر في هذه الحرب.
وكانت إيطاليا حديثة عهد بالاستقلال، ولم تكن راغبة في التورط في صراعات القارة
الأوربية. وأما ألمانيا فكانت أقرب إلى روسيا منها إلى الدولة العثمانية في تلك
الفترة.
محاولة هدم المعاهدة
وأدرك السلطان "عبد الحميد"
بدهائه السياسي حجم وطبيعة التناقض في المصالح بين الدول الغربية، وسعى من خلال
هذا التناقض إلى العمل على هدم معاهدة "سان إستيفانو"؛ اعتمادا على
اللجوء إلى أقل الضررين، وبنى موقفه السياسي وتحركه على أن بريطانيا هي أقرب الدول
إليه في هذه المرحلة؛ ولذا سعى لتنسيق أموره معها؛ ومن ثم أعطى بريطانيا لواء
قبرص، مقابل دعمها له، وكانت قبرص مهمة لبريطانيا في تدعيم وجودها في غرب ووسط
البحر المتوسط.
وانعقد مؤتمر في برلين برئاسة المستشار
الألماني "بسمارك" في (13 من رجب 1295 هـ=13 يوليو 1878م) حضرته الدول
الأوربية الكبرى، ولم يعط المؤتمر روسيا إلا النزر اليسير مما نصت عليه معاهدة
"سان إستيفانو"، ويعتبر مؤتمر برلين من آخر الاتفاقيات التي عدلت الحدود
الجغرافية السياسية لأوربا في القرن التاسع عشر، وأطال عمر الدولة العثمانية 35
عاما بدلا من "سان إستيفانو" التي كانت تسعى لوضع نهاية سريعة للخلافة
العثمانية.
واستمر مؤتمر برلين 31 يوما عقدت خلاله
20 جلسة، واحتوى على 64 مادة، أجبرت الدولة العثمانية على إجراء إصلاحات في
الأناضول الشرقية لصالح الأرمن، وفي عدد من المناطق في البلقان، غير أن السلطان
"عبد الحميد" كان يجيد اللعب على التناقضات والمصالح المتضادة بين الدول
الكبرى وفي منطقة البلقان.
كانت معاهدة برلين هي المرحلة الثانية
بعد معاهدة "كارلوفجة" 1699م، في تصفية الدولة العثمانية في أوربا،
والتي ختمت بمعاهدة لندن 1913، التي اعترفت بالاستقلال التام لثلاث إمارات تابعة
لها هي رومانيا وصربيا وقرة داغ