ابن باديس والعمل الإعلامي
«الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء».
هذا الشعار رفعه عبد الحميد بن باديس في وجه المستعمر، وهو يخوض معركتين معاً.
المعركة الأولى هي تعريب الجزائريين، وتعليمهم اللغة، وتفسير القران، ومقاومة الحملات التبشيرية الفرنسية.
والمعركة الثانية هي: طرد المستعمر من بلاده.
لذلك بدأ الإمام ابن باديس يتجه للصحافة كمجال ينفذ منه بفكره إلى مساحة عريضة من الناس، تكون أقوى، وأوسع انتشاراً من محاضراته في المسجد الأخضر... وقد يجد صوته صدى إذا خرجت الصحيفة إلى نطاق أوسع من الجزائر، و في نفس الوقت لا تتعرّض إلى طائلة المستعمر الفرنسي و بطشه ، فوجد أن أفضل وسيلة متاحة هي : الصحافة ، فاتّجه إليها .
كان ابن باديس شغوفاً بقراءة الصحف والمجلات العربية كالمنار للإمام رشيد رضا، ومجلة الفتح لمحب الدين الخطيب، وجريدة المؤيد واللواء والجرائد الفرنسية لاديبيش دوكونستونتين ولوتو. وعن هذه الصحف الأخيرة يقول ابن باديس "لا ننكر أننا مع المعجبين(...) بالصحافة الفرنسية الكبرى، ومالها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام". وكان على يقين بالدور الفعَّال الذي تمارسه الصحافة في توعية الجماهير والتأثير في أصحاب القرار، وهذا ما جعله يؤسس مطبعة ويصدر جرائد لتحقيق هذه الأهداف ودعم نشاطه التربوي خارج المسجد.
الصحافة قبل ظهور دعوة ابن باديس
يصعب تعيين تاريخ محدّد لظهور الصحافة في الجزائر، إلا أن المؤكد أنها رافقت دخول الاستعمار، فقد استعملها الفرنسيون المعتدون لتبليغ القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية إلى الشعب الجزائري، كما عنيت تلك الصحافة بإظهار سمعة فرنسا وما لها من الفضل على العرب والمسلمين من جهة، وتشويه رجال المقاومة الإسلامية الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار من جهة أخرى.
وظلت الصحافة الاستعمارية على هذا الخط فترة طويلة، إلى أن ظهر بعض الكتّاب الجزائريين الذين كتبوا حول الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد كانت في أغلبها ترمي إلى خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر، أكثر مما ترمي إلى إفادة الشعب الجزائري، ذلك لأن الطابع الفكري العام لما يكتب في تلك الصحافة كان موجّهًا توجيهًا مباشرًا من طرف الاستعمار.. ولا نكاد نصل إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظهرت بعض الصحف التي تندد بسياسة اليهود والمستعمرين تجاه الأهالي.
فقد ظهرت صحيفة (الحق) في مدينة (عنّابة) سنة 1893م بالفرنسية، ثم في سنة 1894م بالعربية، ثم جريدة المغرب سنة 1903م، وكانت تسعى إلى التأليف بين الأهالي وبين الأمة الفرنسية، وكان جُل الكتّاب في هذه الصحيفة جزائريين، منهم الشيخ عبد القادر المجاوي، والشيخ عبد الحليم بن سماية، وغيرهم من المثقفين الذين عُرفوا باتجاههم الإصلاحي.
بعد ذلك ظهرت طلائع الصحافة الإسلامية الإصلاحية، مثل (الفاروق) التي أصدرها الأستاذ عمر بن قدور، و(ذو الفقار) التي أصدرها الأستاذ عمر راسم سنة 1913م.
فاهتمت بالإصلاح الديني والوضع الاجتماعي، وأحوال الشباب، والتعليم واللغة العربية.
هذا باختصار هو الاتجاه العام للصحافة في تلك الفترة.
بداية نشاط ابن باديس الصحفي
إن ما جرّته الحرب العالمية الأولى من ويلات على الأمة الجزائرية، ساهم في إيجاد يقظة عامة في معظم طبقات الشعب، وظهور نوع من النضج الفكري والإرادة القوية لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها البلاد.
وقد أحسّ ابن باديس بعد سنوات من الجهد المتواصل في التعليم المسجدي والخطب، بضرورة توسيع دائرة دعوته، لتشمل عددًا كبيرًا من الشعب، فأقدم على استخدام القلم مع اللسان، مستعينًا بأدوات العصر لإبلاغ دعوته، وفي مقدمتها الصحافة التي خصص للجانب التربوي فيها نصيبًا وافرًا.
شارك ابن باديس في تأسيس وتحرير جريدة (النجاح) التي صدرت في عام 1919 م حيث كانت في بداية أمرها إصلاحية، ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته.. وكانت مقالاته تُـمهر باسم مستعار هو " القسنطيني " أو " العبسي ". في ذلك الحين ظهرت بعض الصحف الوطنية والإصلاحية، منها جريدة (الصدّيق)، التي رأس تحريرها السيد عمر بن قدور، ثم أصدر الأمير خالد جريدته (الإقدام) بين (1920-1923م). وفي سنة 1926 م أسس الشيخ أبو اليقظان أحد رموز جمعية العلماء المسلمين أول جريدة عربية باسمه تحت عنوان (وادي ميزاب) أرادها لتكون لسان حال الفكر الإسلامي عموما و الجزائري خصوصا. و لأنه كان نسيج وحده في الأسلوب المقاوم الذي لا يهادن و لا ينافق، فإنه تجرع في سبيل سير صحافته الغصص، و تحمل المشاق المادية المرهقة، يكفي أن نعرف أن جريدته هذه كانت تحرر بالجزائر، و تطبع بتونس، ثم تعود بالقطار لتوزع في الجزائر هكذا كل أسبوع طيلة عامين و نصف لم تتخلف فيها عن الظهور قط، و كان يعاونه في طبعها زميلاه في الجهاد الوطني الشيخ محمد الثميني، و ابن الشيخ قاسم بن الحاج عيسى. و كانت جريدة (وادي ميزاب) بداية لجهاد مرير دام ثلاث عشرة سنة، أصدر خلالها ثماني جرائد أسقطها الاستعمار الواحدة تلو الأخرى، لأنه لم يطق حرارة لهجتها، و جرأة معالجتها، و هي التالية: (وادي ميزاب) 119عددا، من 01/10/1926 إلى 18/01/1929م، (ميزاب) عدد واحد، 25/01/1930م، (المغرب) 38 عددا، من 29/05/1930 إلى 09/03/1931م، (النور) 78 عددا، من 15/09/1931 إلى 02/05/1933م، (البستان) 10 أعداد، من 27/04/1933 إلى 13/07/1933، (النبراس) 6 أعداد، من 21/07/1933 إلى 22/08/1933، (الأمة) 170 عددا، من 08/09/1933 إلى 06/06/1938، (الفرقان) 6 أعداد، من 08/07/1938 إلى 03/08/1938.
الصحف الباديسية
المنتقد :
هدفت الجريدة إلى تسليط الضوء على أخطاء المستعمر، وصدر العدد الأوّل في 3 يوليو سنة 1925م الموافق 11 ذي الحجة سنة 1343هـ وذلك في مدينة قسنطينة، وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء"، تولى الشيخ ابن باديس رئاسة تحريرها وأسند إدارتها للشهيد أحمد بوشمال، وكان من كتابها الشيخ مبارك الميلي، والشيخ الطيب العقبي، رحمهما الله.
وفي افتتاحيته الأولى أراد ابن باديس أن يبيّن أهدافه، وغاياته، ودعوته، وأراد أن يُعرّف دعوته للناس، فكتب بقول: «باسم اللّه، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحمّلها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون... وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها.
نحن قومٌ مسلمون جزائريون، فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر».
واستطرد الإمام يقول: «إن الدين قوة عظيمة، لا يستهان بها، وإن الحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته، وتجلب عليه وعليها الأضرار».
لقد صال وجال بكلماته ليضع أمام القارئ إطار فكره، ومضمون دعوته.
وبدأ يخطو في ذلك خطوات هادئة ناجحة، في كل خطوة من هذه الخطوات حيطة وحذر وذكاء، حتى لا يقع في مواجهة مع المستعمر المتسلط قبل أن يسمعه الناس، ويجتمعوا حوله.
وفي العدد الثاني الصادر في 9 يوليو 1925م، أكد من جديد على استقلالية الجريدة وشرح فلسفتها التي تعتمد على الوفاء للوطن والجرأة في بيان الحق "إننا لسنا لإنسان، ولا على إنسان، وإنما نخدم الحق والوطن...ونكرر القول (إن "المنتقد" لا يباع ولا يشترى". أصبحت هذه الصحيفة منبراً لتوجيه وتوعية الجزائريين وقناة لنقد الوضع الاستعماري المفروض على الجزائر وصوتاً لمناصرة القضايا الكبرى للمسلمين في فترة العشرينيات كثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ومساندة الشعب الليبي.
ثم أعلن الرجل من على منبر «المنتقد» دور هذه الصحيفة قائلاً:
«إننا سننتقد الحكام، والمديرين، والنواب، والقضاة، والعلماء، وكل من يتولى شأناً من أكبر كبير إلى أصغر صغير، من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين».
وقد نشرت في عددها السادس مقالاً للميلي تحت عنوان «العقل الجزائري في خطر»، كما نشرت في عددها الثامن قصيدة للعقبي تحت عنوان «إلى الدين الخالص» ومثل هذه القصيدة وذلك المقال يعد جراءة كبرى في ذلك العهد لتناولهما العادات المألوفة بالنقد والتجريح.
ولكن فرنسا فطنت إلى خطورة هذه المقالات، وأصدرت قراراً بتعطيل الجريدة بعد صدور العدد الثامن عشر منها، فكان مصيرها كالعروة الوثقى التي أنشأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأوقفتها السلطات الفرنسية والبريطانية بعد صدور العدد الثامن عشر.
وهكذا كان لصحيفة المنتقد دور كبير في عرض آراء ومقترحات عبد الحميد بن باديس، ولكنه لم يهدأ، ولم تفتر عزيمته، وواصل طريقه من خلال الصحافة.
الشهاب
تعتبر الشهاب بحق هي جريدة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد جاءت بعد تجربة «المنتقد» بما فيها من صدام مع السلطة، أدى إلى مصادرتها، وحجب أفكاره عن الناس.
أصدر الإمام عبد الحميد بن باديس أوّل عدد منها في عام 1925 م ، كجريدة أسبوعية ثم حوّلها إلى مجلة شهرية سنة 1929 م تحتوي افتتاحية، ومقالات، وفتاوى، وقصصاً، وأخباراً، وطرائف، وتراجم، وعرضاً للكتب، والصحف العربية، والأجنبية، وتنشر مقالات للكتاب والشعراء العرب من مصر ولبنان وتونس والمغرب. في السنوات الأولى، كتب ابن باديس معظم المقالات وقام بتصميمها وكان يوزعها بنفسه، وكان مثله كمثل أبي الأعلى المودودي صاحب مجلة ترجمان القرآن في بداية مشواره الدعوي.
لقد صدرت الشهاب برؤية جديدة تتسم بعدم الصدام مع السلطة، والصبغة الدينية الغالبة في موضوعاتها، فقام الشيخ بشرح التفسير والأحاديث على صفحاتها، مع ربط المسائل الدينية بالواقع الجزائري، فراح يهاجم الدجاجلة فيقول على صفحاتها:
«أحذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القران وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل».
وحث ابن باديس الجزائريين على الوحدة، من خلال كتابه الذي توجه بها مباشرة لأبناء شعبه فراح يقول:
«كن أخاً إنسانياً لكل جنس، وخصوصاً ابن جلدتك المتجنّس جنسية أخرى، فهو أخوك في الدم الأصلي».
من خلال هذه الإسقاطات استطاع أن يجعل أعداد الشهاب تتواصل دون توقف طوال حياته منذ بدء صدروها عام (1925) إلى وفاته عام (1940م).
كان يقول للجزائريين، ويخاطبهم بهذا الأسلوب، فتتحوّل كلماته إلى أنغام ثورية تشحذ النفوس، وتقوي العزائم، وقد حاولوا اغتياله بسبب ذلك في عام (1927م).
ومن كلماته المباشرة لشعب الجزائر التي اتخذت على اعتبار أنها وصايا ضرورية:
1- كن صادقاً في معاملاتك بقولك وفعلك.
2- كن عصرياً في فكرك وعملك وتجارتك، وفي صناعتك وفي فلاحتك، وفي تمدّنك ورقيك.
3- أحذر من الخيانة... الخيانة المادية في النفوس والأغراض والأموال، والخيانة الأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.
ونلاحظ الخلفية الدينية الكاملة في هذه الوصايا، فالإخلاص في العمل دعوة سمعناها من السلف الصالح، والأمانة على النفس والعرض والمال، والذمة والشرف والضمير... كل هذه من وحي أصول دينية ثابتة بنصوص يشرحها ويفسرها كل يوم الإمام الشيخ في المسجد، وفي صحيفة الشهاب.
و من خلال استقراء موادّ مجلة " الشهاب " ، نستطيع أن نحدّد أهمّ الأساليب الإصلاحية التي سارت عليها المجلة ، و أن نحصرها في محوريْن اثنين ، هما :
1 – تصحيح عقائد الناس و أعمالهم .
2 – الاهتمام بالتعليم .
فهاتان القضيتان كانتا أهم الملامح التي تشكّل سمة الخطاب الإسلامي في هذه المجلة الرائدة ، فعلى صعيد إصلاح عقائد الناس وأعمالهم أفصح الشيخ عن المنهج الذي تبنّاه فيها ، إذ يقول : " قمنا بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح من التمسك بالقرآن الشريف و الصحيح من السنة الشريفة و قد عرف القائمون بتلك الدعوة ما يلاقونه من مصاعب و قحم في طريقهم من وضع الذين شبّوا على ما وجدوا عليه آباءهم من خلق التساهل في الزيادات والذيول التي ألصقها بالدين المغرضون أو أعداء الإسلام الألداء و الغافلون من أبناء الإسلام ".
أما على صعيد التعليم ، فقد كان يرى فيه أمضى سلاح لمقاومة المعتدي و طرده من أرض الجزائر ، لذلك اهتمّ به اهتماما عظيماً و أولاه كل عنايته و وقته و مَـلَـكاته ، حتى وصفه الأستاذ أنور الجندي رحمه الله بقوله : " وهو الذي ينشئ المدارس و المعاهد في طول البلاد و عرضها ثم هو الذي يمضي يومه كاملاً في حلقة الدرس يفتتح الدروس بعد صلاة الصبح حتى ساعة الزوال بعد الظهيرة ، و من بعد المغرب إلى صلاة العشاء .
و إذا خرج من المعهد ذهب رأساً إلى إدارة جريدته " الشهاب " يكتب و يراسل " البصائر " ويجيب على الرسائل فيقضي موهناً من الليل ، حتى إذا نودي لصلاة الصبح كان في الصف الأول ".
فقد اتّخذ الشيخ ابن باديس رحمه الله في مقالاته في المجلة أسلوباً تربويّاً تعليمياً يربط المسلمين بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلّم ، و يوثّق صِـلاتهم بها ؛ فقام بتفسير القرآن الكريم ، وشرح السنة النبوية شرحاً علمياً منهجياً في سلسلة اسمها " مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير "، تناول فيها أيضا الكثير من القضايا المعاصرة التي طُرحت في الساحة الفكرية كإحدى تبعات الهزيمة الفكرية للمسلمين، وانقلاب الكثير من المفاهيم واختلالها في العالم الإسلامي المُستضعف، مثل مفهوم : " الحضارة "، فقد تناوله في معـرض تفسير قوله تعالى ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( الأنبياء 15 ) ، فقال الشيخ : " رأى بعض الناس أن المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض ، و هي مدنية مادية في نهجها و غايتها و نتائجها . فالقوة عندها فوق الحق و العدل و الرحمة و الإحسان ، فقالوا إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض و زعموا أن المراد بـ " الصالحون " في الآية الصالحون لعمارة الأرض ، فيا لله للقرآن والإنسان من هذا التحريف السخيف كأن عمارة الأرض هي كل شيء و لو ضلت العقائد وفسدت الأخلاق واعوجت الأعمال وساءت الأحوال و عذبت و الإنسانية بالأزمات الخانقة وروّعت بالفتن و الحروب المخرّبة الجارفة، و هدّدت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها و المدنية من أساسها " .
واهتمامات مجلة الشهاب قضايا الأمة الإسلامية، فبالرغم مما كانت تتعرّض له الجزائر المسلمة من محن وتحديات عصيبة ، كان بالإمكان أن تفرض على أهلها طوقاً من العزلة والإنكفاء على الذات و الانشغال عن قضايا المسلمين خارج البلاد ، غير أن هذا لم يحصل مع الشيخ ابن باديس الذي كان يمدّ ناظريه خارج حدود بلاده متابعاً و راصداً الكثير من القضايا التي تمسّ الأمة الإسلامية، و منها قضية فلسطين وتطوّراتها، وقد كانت هذه القضية من أهم القضايا التي تطرّق إليها و تناولها بالنقاش و التحليل، يقول رحمه الله في مجلة " الشهاب " : " تزاوج الاستعمار الإنكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل و قذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يُطاق و جرحوا قلب الإسلام و العرب جرحاً لا يندمل " .
كانت لهذه لمجلة الشهاب شهرة واسعة في العالم الإسلامي، وشهد بفضلها كبار العلماء والمصلحين. كتب الإمام حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية الأربعينيات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد ص. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء". وكتب أيضاً في السياق نفسه المفكر السوري الدكتور محمد المبارك في مجلة المجمع العلمي الدمشقية أنه كان يطالع في شبابه في الثلاثينيات مجلة الشهاب الجزائرية التي تصل إلى دمشق مع مجموعة من أصدقائه الطلبة "بلهفة شديدة". وعن تأثيرها في المغرب، يقول الشيخ محمد غازي أحد علماء فاس "مجلة الشهاب الغراء (...) خدمت الإسلام والمسلمين عموماً والإصلاح والمصلحين خصوصاً، تلك الجريدة التي كان الشمال الإفريقي متعطشاً لمثلها منذ زمان.
و هكذا ، كانت مجلة " الشهاب " في مسيرتها المباركة مشعل نور، ونبراس هداية يضيء للجزائريين الطريق ليتلمّسوا نحو الخلاص، في تلك الظلمات الحالكة والظروف العصيبة التي مرت بها تلك البلاد المسلمة. إلا أن الشيخ بسبب هذا التأثير الإعلامي القوي و الفاعل لهذه المجلة، واجه الكثير من المصاعب والعقبات التي وقفت في سبيله، حيث توقفت المجلة غداة اندلاع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من عام 1939 م، على يد السلطات الفرنسية، وعبر مساره الإعلامي شارك ابن باديس في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لما تكونت في 5 ماي من عام 1931 م، حيث أصدرت أربعة جرائد هي "السنة النبوية المحمدية" التي صدر عددها الأول في 3 أفريل 1933 م ، و"الشريعة المحمدية" صدرت بعد توقيف جريدة السنة في أعدادها السبعة سنة 1933 وتوقفت 28 أوت 1933 م، و"الصراط السوى" صدرت في سبعة عشر عدد ما بين 11 سبتمبر 1933م إلى غاية 08 جانفي 1934م، وكل هذه الجرائد لم تعمر طويلا؛ فقد أوقفتها الإدارة الفرنسية، ثم"البصائر" في سلسلتها الأولى (1935-1939 م) وهي الجريدة الوحيدة التي بقية بعد وفاة الشيخ ابن باديس حيث استمرت في الصدور من عام 1947 م إلى غاية 1956 م واحتدام الثورة التحريرية حيث تم توقيفها من طرف المشرفين عليها حسب ما أعلن عليه المرحوم الشيخ علي مغربي وليس طرف إدارة الاحتلال.
هذه الجرائد كانت لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس باعتباره رئيسا للجمعية يكتب فيها كلها، وهو غالبا ما يكتب الافتتاحية، التي تتولى الدفاع عن الشخصية الجزائرية، أو الدفاع عن التعليم العربي الإسلامي، أو الرد على بعض المنحرفين من الجزائريين أو من أهل الطرق الصوفية...
توفّي الشيخ عام 1940 م بعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد والدعوة مخلّفاً وراءه ذكراً عاطراً و ثناءً وافرً بفرض نفسه على عالم الصحافة في فترة العشرينيات والثلاثينيات وصار رائداً من رواد الصحافة العربية الحديثة وأرسى "دعائمها على أسس متينة من الإيمان بالمبدأ والوطنية والتقاليد الصحافية العالية".
الصحافة وسيلة تربية وتعليم
كانت الصحافة الإصلاحية في زمن ابن باديس في طليعة وسائل التربية والتعليم، فقد ساهمت في نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول، يقول ابن باديس: (وسيكون هذا الباب من المجلة مجالاً لفنون من التذكير، جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وأخرى).
ويوضّح أنواع ذلك التذكير، فيقول: (ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في أصول العقائد أو أصول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يُرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير). فكانت الصحـافة من أمضى الأسلحة التي حاربت بها الحركة الإصلاحيـة خصومها، ونشرت بها أفكارها وتعاليمه