الحمد لله على سابغ ونعمه والشكر له على مزيد فضله وإنعامه ،
وصلى الله وسلم على خير خلقه وخاتم رسله وأنبيائه محمد بن عبد الله وعلى
آله وصحبه وسائر أتباعه .
أما بعد :
فلما كانت النفوس مجبولة على حب الأعياد ومواسم الأفراح بما جعل الله في
القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره ، لما يجد فيه
الناس من الاجتماع والراحة واللذة والسرور ما هو معلوم ، حتى بات معظماً
لدى عموم الناس على اختلاف مللهم لتعلق تلك الأغراض به ، فقد جاءت شريعة
الإسلام بمشروعية عيدي الفطر والأضحى ، وشرع الله فيهما من التوسعة وإظهار
السرور ما تحتاجه النفوس ، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة المحمدية ،
خاصةً وأنهما عيدان مشروعان مباركان يحبهما سبحانه ، بخلاف أعياد الأمم
الأخرى التي لم يشرعها الله ، بل هي من جملة مبتدعاتهم .
روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ،
فقال : " قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما : يومَ الفطر والأضحى " .
وفي العيد آداب يجدر رعايتها ، كما أن له أحكاماً ينبغي مراعاتها ، ونبين ذلك فيما يأتي :
أولاً :
في عيد الفطر يشرع التكبير من ليلة العيد حتى حضور الصلاة ، وقد أخذ أهل
العلم هذا الحكم من قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
[البقرة : 185]) [ البقرة : 185 ] .
ومن فعله صلى الله عليه وسلم ، حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان
يخرج يوم الفطر فيكبِّر حتى يأتي المُصلَّى ، وحتى يقضيَ الصلاة ، فإذا قضى
الصلاة قطع التكبير " رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
وهذا من تمام الشكر للمُنْعِم جلَّ وعلا ، ولهذا جاءت السُّنة باستحباب ذكر
الله عقيب العبادات، كما جاء في مشروعية التسبيح والتحميد والتكبير بعد
الصلوات المكتوبات ، وكما جاء من مشروعية ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج ،
وهكذا بعد قضاء الصيام كذلك .
ومما أُثر من صيغ التكبير : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
قال الحافظ البغوي ـ رحمه الله ـ " ومن السُّنة إظهار التكبير ليلتي العيد
مقيمين وسفراً ، وفي منازلهم ومساجدهم وأسواقهم وبعد الغدو في الطريق
وبالمصلى ، إلى أن يحضر الإمام " .
ثانياً : استحب العلماء في العيد الاغتسال والتجمل له ، فيغتسل الشخص ويتنظف ويتطهر ، وقد نقل ذلك عن عدد من السلف من الصحابة ومن بعدهم .
وهكذا التجمل ولبس الثياب الحسنة أمر محمود ومشروع في العيد ، وقد روى ابن
خزيمة في " صحيحه " عن جابر بن عبد الله قال : " كان للنبي صلى الله عليه
وسلم جُبَّة يلبسها في العيدين " .
والرجل يخرج على هذه الصفة من التجمل ، وأما النساء فإنهن إذا خرجن للصلاة
يخرجن على الصفة التي أذن بها لهن المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا شهدن
الصلاة حيث قال : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن
تَفِلات "رواه أبو داود.
والمعنى : أن يجتنبن أسباب الفتنة مثل الطيب وإبداء الزينة ونحو ذلك . وأما
تزين النساء وتجملهن بالمعروف والمشروع فلا حرج عليهن في إظهاره بين
النساء ، ولمن يحل له النظر إليه من زوج أو محارمهن .
ثالثاً : إذا أراد المسلم الخروج للصلاة في عيد الفطر فالمُستحب له أن يأكل تمراتٍ اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر
حتى يأكل تمراتٍ ، ويأكلهن وِتراً " رواه البخاري والترمذي وابن ماجة .
وخرَّجه أيضاً أحمد في المسند . وعن بُريدة قال : " كان النبي صلى الله
عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ، ويوم النحر : لا يأكل حتى يرجع
فيأكل من نسيكته " رواه الترمذي وابن ماجة.
رابعاً :
ينبغي لأهل الإسلام الحرص الأكيد على حضور صلاة العيد ، فإنها متأكدة في
حقهم ، وقد لازم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد ولم يتركها في عيد
من الأعياد منذ شرعت حتى مات عليه الصلاة والسلام .
ومن تأكدها أن الفتيات الصغيرات والنساء المعذورات ومن لا جلباب لها كلهن
أُمرن بها ، حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها فغيرهن من باب أولى
.
ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان عن أم عطية الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ
قالت : " أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر
والأضحى : العواتق والحُيَّض وذوات الخدور ، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة [
وفي لفظ : يعتزلن المُصلَّى ] ويشهدن الخير ودعوة المسلمين" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " .. ولهذا رجَّحنا أن صلاة العيد
واجبة على الأعيان كقول أبي حنيفة وغيره ، وهو أحد قولي الشافعي ، وأحد
القولين في مذهب أحمد ، وقول من قال : لا تجب . في غاية البعد ، فإنها من
أعظم شعائر الإسلام ، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة ، وقد شُرع فيها
التكبير ".
ويستحب للمسلم سماع الخطبة لما في الاجتماع عليها من الخير والدعاء والذكر ، ومعرفة أحكام وآداب العيد.
خامساً :
صلاة العيد لا أذان لها ولا إقامة ، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس
وجابر قالا : لم يكن يُؤذَّنُ يوم الفطر ولا ييوم الأضحى . وقال جابر بن
سمُرة : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا
مرتين بغير أذانٍ ولا إقامة " رواه مسلم .
كما أنه ليس لها سُنةٌ قبلية ، ولهذا من صلاها في المصلَّى كما هي السنة لا
يصلي شيئاً أول ما يحضر بل يجلس ، ولكن من صلاها في مسجد جماعة فإنه يصلي
ركعتين تحية المسجد كما هي السنة ، حتى ولو كان وقت نهي ، لأنهما من ذوات
الأسباب التي لا حرج على المسلم أن يصلي لأجلها وقتَ النهي .
سادساً :
تشرع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم به بسط
النفس وترويح البدن بما أحل الله ، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم ومحاسن
شريعته .
ومما يدلُّ على هذا ما روته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء
بُعاث ، فاضطجع على الفراش ، وحوَّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال :
مِزمارةُ الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم ؟! فأقبل عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : " دعهما " ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا . رواه
البخاري ومسلم . جاء في رواية : " يا أبا بكر ، إن لكل قومٍ عيداً ، وهذا
عيدنا ".
وفي رواية في " المسند " أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ : " لِتَعْلَمَ اليهود أنَّ في ديننا فسحة ، إني أُرسلت بحنيفية
سمحة " .
فالعيد إذاً من الدِّين … والعيد عبادة وقُربة … والعيد شِرْعةٌ ونُسُك ،
ألا ترون أنه لو أن أحداً من الناس أصبح اليوم صائماً لكان عاصياً لله ،
ولأصبح مأزوراً غير مأجور .
قال الحافظ البغوي : ويوم بُعاث يومٌ مشهور كان فيه مقتلةٌ عظيمةٌ للأوس
على الخزرج ، وقد مكثت هذه الحرب مائة وعشرين سنة ، حتى جاء الإسلام ، وكان
شعر الجاريتين في غنائهما فيه وصف الحرب والشجاعة ، وفي هذا معونة ٌ لأمر
الدِّين ، فأما الغناء بذكر الفواحش وذكر الحُرَم والمجاهرة بمنكر القول
فهو المحظور من الغناء ، وحاشاه أن يجري شيءٌ من ذلك بحضرته صلى الله عليه
وسلم فيُغفل النكير له .
ومما يحسن التنبيه إليه أن إباحة الغناء في يوم العيد على الصفة المذكورة
آنفاً إنما هو للبنات الجواري الصغيرات ، وهو جائز بالدُّف دون غيره من
آلات الطرب ، وأن لا يكون ذلك عادةً لهن يتعوَّدن فيها الغناء بعادة
المغنيات ، وقد نبهت لهذا أم المؤمنين عائشة ـ كما في رواية ثابتة عند ابن
ماجة ـ قالت : " وليستا بمغنيتين " .
سابعاً :
التهنئة بالعيد أمرٌ حسنٌ طيبٌ لفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فقد ثبت عن جبير بن نفير قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض : تقبَّل الله منا ومنك [1].
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : هل التهنئة في العيد وما يجرى
على ألسنة الناس:عيدك مبارك ، وما أشبهه ، هل له أصلٌ في الشريعة أم لا ؟
وإذا كان له أصلٌ في الشريعة فما الذي يقال ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد:
تقبَّل الله منا ومنكم ، وأحاله الله عليك ، ونحو ذلك ، فهذا قد روي عن
طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ورخَّص فيه الأئمة كأحمد وغيره .
لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحداً، فإن ابتدأني أحدٌ أجبته .
وذلك لأن جواب التحية واجب ، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سُنة مأموراً بها
، ولا هو أيضاً مما نُهِيَ عنه ، فمن فعله فله قدوة ، ومن تركه فله قدوة ،
والله أعلم.[2]
ثامناً :
العيد فرصةٌ لتجاوز الانفعالات النفسية ، ووصل ما انقطع من أواصر القربى
والصداقة ، فكم هو جميل أن يكون في يوم العيد نبذُ التهاجر والحرص على
التواصل ، وخاصةً صلة الرحم ، والإنسان الحصيف هو من يعمل بالصلة ويقابل
بالإحسان .
ففي الحديث أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ،
وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ ، فقال : " لئن كنتَ
كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ [3]، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم
ما دمت على ذلك" رواه مسلم .
فليكن العيد نقطة تحول في طيبة النفس وسلامة الصدر والتعالي على أوضار النفوس وشُحِّها .
تاسعاً :
من أبواب الخير التي يتنبه لها ذوو النفوس الكريمة وأصحاب المروءة
والشهامة ـ وخاصةً في مناسبات الأفراح تحسس أصحاب الحاجات وسد الفاقات .
أما وقد استعددت للعيد .. فأضف إلى استعدادك بمستلزمات العيد استعداداً آخر
كريماً ، ألا وهو سعيك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء والمعدِمين .
فتِّش عن أصحاب الحاجات من الأقارب والجيران وإخوانك المسلمين ، وتلمس حاجاتهم وأدخل السرور على قلوبهم وأولادهم ونسائهم .
تذكر صبيحة العيد حين يُقبَّلُ الأولاد ، ويشيع الفرح بين الآباء والأمهات ،
ويتنامى الأنس بين الأزواج والزوجات .. وحين يجتمع الشمل للأسر
والعائلات...
تذكر إذَّاك يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة الباسمة ابتسامة أبٍ يحنو عليهم ، ولا أم تعطف عليهم وتهيؤهم لعيدهم... .
وتذكَّر أيامىً من النساء لا يجدن حنان زوج ترتفع في كنفه عن سؤال الناس... .
وتذكر إخواناً لك مشردين وخائفين تطولهم أيد الظلم في أصقاع شتى من الدنيا... .
تذكر كل ذلك وجُدْ بما تستطيع في تلك المواقف ، لتحوز رضا الله وإكرامه لك .
عاشراً :
في العيد يتساهل بعض الناس ببعض الآداب ورعايتها ، من مثل ما يكون من تبرج
بعض النساء وإبداء زينتهن لمن لا يحل له ، وهكذا وقوع الاختلاط بدعوى
التواصل العائلي وما يشتمل عليه ذلك من المصافحة بين النساء والرجال
الأجانب عنهن ، وهذه أمورٌ محرمة معلوم تحريمها من دين الإسلام بالأدلة
الصريحة ، والعيد والفرح لا يبرر الوقوع في المحرمات ، بل إنَّ مِنْ شكر
الله عليه أن تتجنب ويحذر منها .
ومما يظنه بعض الناس مشروعاً وليس كذلك إحياء ليلة العيد وتخصيصها بالقيام ،
وفي هذا يُروى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو : من أحيى ليلة
الفطر والأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب . ولكنه موضوعٌ لا يجوز العمل
به .
وهكذا تخصيص زيارة القبور بيوم العيد ليس من السنة في شيء .
كما أن الواجب على الإنسان لدى إظهار فرحه وسروره وممارسة أهله وأولاده
لذلك أن يحافظ على مشاعر الآخرين ، وأن يراعي آداب الطريق والمعاملة مع
الناس .
وبعدُ : فهذا هو العيد يحلُّ علينا ، وهو عيد في الحقيقة لمن اجتهد في
عبادة مولاه ، وحرص على التقرب إليه بما يحب في رمضان وبعده ، فهذا هو يوم
فرح الصائمين بفطرهم بعد أن استجابوا لربهم فصاموا رمضان .
وفَّق الله الجميع لما فيه الخير ، وجعلنا جميعاً من المقبولين ، ونسأله
سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يحفظ بلادنا في أمنها
وإيمانها وولاتها وأهلها من كل بلاء وفتنة ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
.