إن ازدياد تدخل الدولة لتلبية الاحتياجات العامة المتنامية أدى بها إلى تفويض ممثلين عنها في الأقاليم للقيام ببعض الأنشطة الإدارية لكن بدون استقلال قانوني عن السلطة المركزية. وبناء عليه نستنتج أن المركزية الإدارية إنما تقوم على ركنين أساسيين هما تركيز الوظيفة الإدارية والخضوع للسلطة الرئاسية.
المطلب الأول
تركيز الوظيفة الإداري
يقوم النظام المركزي على حصر النشاط الإرادي و جمعه بيد شخص معنوي واحد هو “الدولة” بمفهومها الضيق أي مجموع الهيئات والأجهزة التي تتكون منها خاصة السلطة التنفيذية ( الحكومة). بصورة يشرف معها الوزراء من العاصمة على جميع مظاهر و أوجه ذلك النشاط والتي يتولاها أشخاص خاضعين مباشرة للسلطة المركزية و تابعين لها في إطار سلم إداري متدرج.
المطلب الثاني
السلطة الرئاسية
أولا : التعريف
تشكل السلطة الرئاسية (le pouvoir hiérarchique) الركن الأساسي للمركزية الإدارية حيث يقوم النظام المركزي الإداري على وجود علاقة قانونية بين الأشخاص العاملين بالإدارة العامة وفق تسلسل معين (السلم الإداري) إذ يتمتع الموظف الأعلى (الرئيس supérieur) بسلطات معينة تجاه الموظف الأدنى منه (المرؤوس subordonné) مما يؤدي إلى وضع هذا الأخير في علاقة تبعية للأول فالسلطة الرئاسية هي- إذن – عبارة عن : العلاقة القانونية القائمة بين الرئيس والمرؤوس أثناء ممارسة النشاط الإداري .
ثانيا : المظاهر
تتمثل أهم السلطات المخولة للرئيس في المكنات والصلاحيات والقدرات القانونية التي يمارسها سواء اتجاه شخص المرؤوس أو أعماله وتصرفاته
1- بالنسبة لشخص المرؤوس: تخول النصوص للرئيس الإداري العديد من الصلاحيات والسلطات التي تمس المركز الذاتي والشخصي للمرؤوس بدءا من سلطة التعيين وانتهاء بسلطة العزل أو الفصل مرورا بسلطات الترقية والتأديب كالتنزيل في درجة الوظيفة وغيرها من الإجراءات التي قد يتعرض لها شخص المرؤوس طيلة مساره الوظيفي والمهني.
وجدير بالملاحظة أن السلطة الرئاسية على الشخص المرؤوس إنما يمارسها الرئيس طبقا لقواعد والإجراءات المحددة لأنها ليست مطلقة كما أنها ليست من قبيل الحقوق.
فسلطة التعيين التي يمارسها الرئيس مثلا تكون وفق الشروط اللازمة للتوظيف وبإجراء المسابقة إدا كانت النصوص تلتزم ذلك وسلطة التأديب تكون وفق إجراءات محددة مثل ضرورة المثول أمام مجلس التأديب أحيانا
2- بالنسبة لأعمال المرؤوس : لما كان الرئيس مسؤولا عن تصرفاته و مسؤولا أيضا عن كيفية أداء مرؤوسيه لأعمالهم و مهامهم فقد خوله القانون مجموعة من السلطات تجاه التصرفات و الأعمال التي يقوم بها أولئك المرؤوسون من حيث مراقبة تلك الأعمال رقابة سابقة ( توجيه) قبل أدائهم لمهامهم ورقابة لاحقة (تعقيب) إذا ما جاءت بعد ذلك.
* الرقابة السابقة أو القبلية a priori (التوجيه الأمر): بغرض حسن سير الجهاز الإرادي و فعاليته يعمد الرؤساء-عادة- إلى توجيه “أوامر ” ordres أو ” تعليمات ” instructions أو منشورات circulaires ترسم و تبين للمرؤوسين طريقة و كيفية العمل التي يعتقد الرؤساء أنها الأكثر اتفاقا مع القانون و الأكثر انسجاما و ملائمة مع مقتضيات الصالح العام ذلك أن” المرؤوس ليس ملزما فقط بالخضوع و الطاعة للقوانين و اللوائح و النظم العامة في الدولة بل هو أيضا ملزم قانونا بالخضوع لأوامر و نواهي و توجيهات و تعليمات رئيسه الإدارية و إطاعته و تنفيذها في حدود القانون. و هنا طرح إشكال إذا كان هذا الالتزام يقع على عاتق المرؤوس بالنسبة للأوامر و التوجيهات المشروعة فما هو الوضع بالنسبة لتلك المخالفة للقانون الصادرة من رئيسه؟
- على المستوى التشريعي : حاولت المادة 129 من القانون المدني الرد على مثل هذا السؤال حينما نصت على ما يلي: “لا يكون الموظفون و العمال العاملون مسؤولين شخصيا عن أعمالهم التي أضرت بالغير إذا قاموا بها تنفيذا لأوامر صدرت إليهم من رئيس متى كانت إطاعة هده الأوامر واجبة عليهم “
و مثل هذا النص إنما وضع قاعدة عامة هي استبعاد الخطأ الشخصي و اعتماد الخطأ المرفقي أو المصلحي ( faute de service ) كأساس للمسؤولية في حالة تنفيذ أوامر الرئيس إذا كانت واجبة التنفيذ ومع ذلك فهو لم يحدد قاعدة عامة تكون بموجبها طاعة تلك الأوامر واجبة إذا قام بإحالة عامة حيث ترك الأمر لنصوص أخرى ( القوانين الخاصة statuts السارية على العاملين بكل قطاع نشاط) مما يبقي المسالة قائمة خاصة للنسبة للأوامر و التعليمات المخالفة للقانون
- أما على المستوى الفقهي فقد ظهرت الآراء الأساسية التالية :
* الرأي الأول: تزعمه الفقيه “هوريو Hauriou” و مؤداه أن الموظف المرؤوس ملزم باحترام وتنفيذ أوامر و تعليمات الرئيس حتى و لو كانت غير مشروعة و مخالفة للقانون مع عدم اعتبار دلك خطا شخصيا (faute personnelle) بل خطا مرفقيا أو مصلحيا كأساس للمسؤولية الإرادية التي قد تترتب عن ذلك حماية للمرؤوس و يستند أصحاب هذا الرأي إلى اعتبارات و مقتضيات العمل الإرادي ذلك أن فتح المجال أمام المرؤوسين لمناقشة مدى مشروعية أوامر الرئيس و الامتناع عن تنفيذها من شأنه أن يربك النشاط الإرادي و يخل بمبدأ أساسي من المبادئ التي تحكم المرافق العامة ألا و هو مبدأ سير المرفق العام بانتظام و اطراد أو مبدأ الاستمرارية (principe de continuité) و عليه فإن هذا الرأي يعطي في الظاهر وزنا لمبدأ الاستمرارية على حساب مبدأ المشروعية (principe de la légalité)
* الرأي الثاني : تزعمه الفقيه ديجي Duguit مخالفا بدلك الرأي الأول و مقتضاه أن الموظف العام المرؤوس كأي مواطن ملزم بتطبيق و تنفيذ القانون لدى أدائه لمهامه تحقيقا لمبدأ المشروعية ومن ثم فإن المرؤوس يجب عليه أن يمتنع عن تنفيذ الأوامر و التوجيهات الصادرة إليه من رئيسه إذا كانت غير مشروعة و إلا فإنه يعد مرتكبا لخطا شخصي يحمله المسؤولية
* الرأي الثالث: و للحد مما يكتنف الرأيين السابقين من عيوب و مثالب من حيث أن الأول يتيح للرئيس مخالفة القانون دون اعتراض أو تنبيه من المرؤوس و أن الثاني قد يكون مطية و مبررا لإرباك النشاط الإرادي و عرقلته و تعطيل المرافق العامة بحجة الحفاظ و الدفاع عن مبدأ المشروعية من طرف المرؤوس فقد ظهر اتجاه فقهي أخر وسط بين دينك الرأيين المتناقضين بزعامة الفقيه”لابند lapand ” للتوفيق بينهما و فحواه أن للمرؤوس تنبيه رئيسه إلى مخالفة أوامره للقانون فإذا ما أصر الرئيس على ضرورة تنفيذ تلك الأوامر وجب على المرؤوس تنفيذها و الانصياع لها على مسؤولية الرئيس و حده
* الرقابة اللاحقة أو البعيدة a posteriori ( سلطة التعقيب ): بعد قيام المرؤوس بأداء مهامه بموجب ما يأتيه من تصرفات و أعمال يمكن الرئيس أن يمارس رقابته على تلك التصرفات سواء من تلقاء نفسه أو بموجب ما يتلقاه من تظلمات و شكاوى من طرف الغير الذي يكون قد تضرر من تلك الأعمال و هذا الوجه من السلطة الرئاسية يظهر في الواقع في عدة صور و أشكالها أهمها: التصديق,التعديل, الإلغاء(السحب) ,الحلول .
- التصديق : بمقتضى هذه السلطة يبقى العمل والتصرف الذي قام به المرؤوس غير منتج لأثره القانوني غير نافذ إلا إذا تم إقراره والموافقة عليه من طرف الرئيس صراحة أو ضمنا
أ- التصديق الصريح :يتجلى هذا الشكل من التصديق في حالة ما إذا اشترط القانون الموافقة الصريحة على تصرف المرؤوس سواء كتابيا أو شفاهيا أو أي تصرف آخر يأتيه الرئيس ليؤكد موافقته وإقراره بكيفية واضحة وجلية
ب- التصديق الضمني : استجابة لمقتضيات الإدارة العامة وفعالية النشاط الإداري ودعم حركته غالبا ما تنص القوانين والأنظمة على تحديد فترة أو مدة زمنية معينة يمكن للرئيس أن يتعرض خلالها على عمل المرؤوس بحيث يترتب على انقضاء تلك الفترة إنتاج عمل المرؤوس لأثره القانوني ونفاذه على اعتبار أن الرئيس قد صادق عليه وأجازه
- التعديل : يخول القانون للرئيس وهو يراقب عمل المرؤوس أن يدخل عليه التغيرات و التحويلات اللازمة التي من شانها الحفاظ على احترام القانون (مبدأ المشروعية) وتحقيق أكبر قدر ممكن من المصلحة العامة (مبدأ الملائمة) وعليه فللرئيس في إطار القانون إن يعدل من العناصر والمعطيات التي يتكون منها تصرف المرؤوس سوءا بالزيادة أو النقصان ذلك أن سلطة التعديل إنما هي إعمال لمكنة وسلطة التصديق والإلغاء في آن واحد
- الإلغاء: تسمح سلطة الإلغاء المخولة للرئيس حيال أعمال مرؤوسيه بالتدخل ليضع حدا للآثار والنتائج المترتبة عن تلك الأعمال مستقبلا.