جميعنا اليوم نستقبل نجماً أحببناه إلى
درجة العشق، نجماً جعل الخامس عشر من شهر كانون الثاني/يناير 2011 يوماً
فارقاً ومضيئاً بتاريخ الرياضة القطرية على وجه الخصوص والعربية عموماً،
نستقبل ذلك الفارس الأغر الذي ترجل عن صهوة جواده ليقود سيارته في مجاهل
صحراء أميركا اللاتينية ويعود إلى دوحة العرب والعز مكللاً بالغار وبلقب
رالي داكار الدولي.
هو القطري ناصر بن صالح العطية الذي دخل
تاريخ الرياضة الميكانيكية من بابها العريض مسجلاً فيها إنجازاً لن تأفل
شمسه باكراً، هو نهر لا ينضب من المثابرة والتحدي والصبر والقدرة على
الاستمرار حتى خط النهاية ليضرب موعداً مع المجد ويعانقه إلى الأبد.
عاد الفارس الأغر إلى أرض الوطن بعدما أبى
إلاّ أن يحفر اسمه واسم بلاده في سجل رالي داكار الأسطوري الذي انطلق
بنسخته الأولى عام 1978، ليصبح أول سائق عربي يتوّج بلقبه الشهير متفوقاً
على أكثر من 156 متسابقاً من أفضل سائقي العالم، وليخط بذلك طريقاً مرصعاً
بالذهب صاغه بنبض قلبه وروحه ليظل محفوراً في ذاكرة العرب والأجيال الصاعدة
على امتداد العقود.
ولا نبالغ بالقول إن العطية نجح بتجسيد
أسطورة الشعب القطري المجبولةُ بسيرة العز والمجد التي تأبى أن ينال منها
أحد، ليصبح بذلك الخيط الحريري المميز في قوس النصر القطري الذي يتسع قطره
يوماً بعد يوم ومنارة العز الوطنية وصورة للإنسان المميز الذي يصول ويجول
في ساحات العديد من الأنشطة الرياضية كرياضة القدرة والتحمل في الفروسية
والرماية وسباقات السيارات.
ويعتبر فوز العطية بالرالي الكبير امتداد
للانجازات القطرية في جميع المجالات وخاصةً الرياضية، وذلك بفضل الدعم اللا
محدود للرياضة من لدن سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر وسمو
الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ولي العهد رئيس اللجنة الأولمبية القطرية، علماً
أن توقيت الفوز جاء في وقت تعيش فيه قطر على نغم العرس الآسيوي الكبير
عنينا به بطولة أمم آسيا لكرة القدم التي تستضيفها قطر وتحتفل أيضاً بتأهل
منتخبها لربع نهائيها ناهيك عن الإنجاز الغير مسبوق المتمثل بالفوز بشرف
استضافة كأس العالم للعام 2022.
ولعل الكثير من منتقدي العطية كانوا
يأخذون عليه تعدد وتنوع مشاركاته القارية والدولية بين الفروسية والرماية
والراليات، وكانوا مصرين على أنه لن يكون بمقدوره النجاح والتحليق عالياً
في رياضة واحدة طالما أن قواه وتركيزه مشتت بين العديد من البطولات، الأمر
الذي غالباً ما كان يدفعه للسفر والتنقل من بلد إلى آخر بشكل دائم. إلا أن
العطية كان له رأي مختلف فهو أنصت إلى حدثه وعندما أومئ المجد له تبعه
بالرغم من أن طرقاته كانت وعرة وشائكة وسحيقة، فالرجل حلم بالفوز وآمن
بقدراته فاستل سيفه من غمده واتجه في الطريق منشداً تحقيق حلم يخبئ في
براثنه مخاطر كبيرة تكاد تطيح بكل أحلامه، لكن ناصر صدّق هذا الصوت الآتي
من أعماق ذاته حتى لاقاه المجد إلى منتصف الطريق وتأكد أنه جديراً به فما
كان منه إلا أن لب رغبته.
ونجح قائد فريق بروة-فولكس فاغن برفع علم
قطر عالياً في سماء بونس إيريس عاصمة الأرجنتين حيث أقيم احتفالاً تاريخياً
له، ومهما نحاول استجداءَ اللغة للتحدث عن إنجاز العطية تَفِّرُّ المفردات
ويجفُ مِدادُ القلم، فصحيح أن هذا الشاب الخلوق بطل بكل ما للكلمة من معنى
لأنه وقبل كل شيء إنسان متواضع مرهف الإحساس طيب المشاعر وشفاف إلى أبعد
حدود لم تنل منه الشهرة والأضواء العالمية المسلطة عليه أو تجرفه نحو ما
يعرف بجنون العظمة.
ولا يجوز التوقف عند الفوز بحد ذاته أو
النتيجة التي حققها هذا الرحالة العربي الجذور في النصف الجنوبي من القارة
إنما ما يجدر التوقف عنده والغوص به لسبر أعماقه واستخلاص العبر منه هو
القيمة المعنوية والإنسانية التي يجسدها هذا الانتصار والتي بإمكانها أن
تتحول لا بل ستتحول بالتأكيد لتكون شعلة مضيئة ومصدر إلهام تغرف منها
الأجيال الصاعدة وتتعلم الصبر والمثابرة وعدم الاستسلام لحين تحقيق
الانتصار، ولما لا نستفيد نحن أيضاً من تجربة ناصر الفريدة ونتعلم التواضع
والتحمل والمثابرة، فدعونا نكون حازمين بصمت، أنقياء وأوفياء لأن النجاح
الحقيقي الذي تمتد آفاقه إلى باطن ذاكرة الأزل فيه قدر أكبر من المجد، مجد
الرجال الذين لا يستسلمون حتى عندما تكون الحراب موجهة إلى صدورهم.