الثورة الصناعية مُصطلح يُشير إلى التغيُّر الذي حدث في حياة الناس خصوصًا في الغرب، خلال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، كما يدل على الحقبة الزمنية نفسها كذلك.
بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وانتقلت إلى أجزاء من أوروبا وأمريكا الشمالية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، انتشر التصنيع في أوروبا الغربية وشمال شرقي الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أدت الثورة الصناعية إلى زيادة عظيمة في الإنتاج. كما أخرجت التصنيع من نطاق المنزل والورشة الصغيرة، وأحلَّت الآلات ذوات المحركات محل العمل اليدوي، وطُورت المصانع لتصبح أفضل وسيلة للجمع بين الآلات والعمال لتشغيلها.
ومع تقدم الثورة الصناعية نشأت الحاجة إلى مستثمرين جدد وإلى مؤسسات مالية لتوفير المال من أجل توسع أكبر للتصنيع. وهكذا أصبح المموِّلون، وكذلك المصارف أمرًا مهمًا في تطور الثورة الصناعية. ولأول مرة في التاريخ الأوروبي، قام عدد من رجال الأعمال الأثرياء بإدارة الصناعة وتنظيمها.
اختلف المؤرخون حول أهمية الثورة الصناعية. وقد ركز بعضهم على أن أهمية الثورة تكمن في الزيادة الكبيرة في إنتاج البضائع. وكان الاعتقاد السائد أن هذه الزيادة أسهمت في رفع مستوى المعيشة خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت أكثر فائدة مما فعلته الهيئات التشريعية واتحادات العمال. وركز آخرون على الجوانب السلبية للثورة، وأشاروا إلى السكن المزدحم وغير الصحي، وظروف العمل البالغة السوء التي تسبَّب فيها التصنيع السريع في المدن.
أنكر بعض المؤرخين أن تكون الثورة الصناعية ثورية، بمعنى كونها فترة تغيرات كبيرة ومفاجئة. ويُصرُّ هؤلاء المتخصِّصون على أن العناصر الأساسية للثورة الصناعية يمكن إرجاعها إلى التطورات التي حدثت في أوروبا منذ مئات السنين قبل القرن الثامن عشر الميلادي.
ترجع جذور التقدم العلمي إلى عصر النهضة (من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر الميلاديين). وقد طور ليُونَاردُو دافينْشي الفنان الإيطالي وصاحب العبقرية العلمية عددًا من الأشكال الآلية في رسوماته وأشكاله. وتم تصنيع هذه التطورات المبكِّرة مرة أخرى في الثورة الصناعية.
ويتفق معظم المؤرخين اليوم على أن الثورة الصناعية كانت نقطة تحول عظيمة في تاريخ العالم. فقد حوّلت العالم الغربي من مجتمع ريفي زراعي إلى مجتمع حضري صناعي. وقد جلب التصنيع الكثير من المنافع المادية، لكنه أيضًا ترك عددًا كبيرًا من المشكلات التي لاتزال قائمة في العالم الحديث. فمثلاً تواجه معظم الدول الصناعية مشاكل تلوث الماء والهواء.
الحياة قبل الثورة الصناعية
قبل الثورة الصناعية كان أقل من 10% من سكان أوروبا يعيشون في المدن. والباقون يعيشون في بلاد وقرى صغيرة منتشرة على امتداد الريف. وكان هؤلاء الناس يقضون معظم يومهم العملي في الزراعة. ولما كان باستطاعتهم بيع الفائض من الطعام في البلدان المجاورة، فإنهم كانوا يزرعون مايزيد قليلاً عما يحتاجونه لأنفسهم. ويصنعون معظم ملابسهم، وفرشهم وأدواتهم من المواد الخام المُنتَجة من المزارع أو الغابات.
وقد وُجِدَ نوع من الصناعة في كل أنحاء أوروبا الغربية قبل الثورة الصناعية. والقليل من التصنيع كان يتم في متاجر الروابط في المدن الصغيرة. وكان العمال الحرفيون في هذه المتاجر يستخدمون أدوات بسيطة لتصنيع منتجات مثل الملابس والأدوات المعدنية والحليّ والمنتجات الجلدية والمشغولات الفضية والأسلحة. وكان بعض المنتجات المصنوعة في المدن الصغيرة تتم مقايضته بالطعام المُنتَج في الريف. وكذلك كانت منتجات المدن تُصَدَّر لمبادلة ثمن الكماليات المستوردة من الخارج، أو تُرْسَل إلى المستعمرات في مقابل المواد الخام.
ومع ذلك، كان معظم التصنيع يحدث في المنازل في المناطق الريفية. والتجار الذين يُسمون المقاولين الملتزمين يوزعون المواد الخام على العمال في منازلهم ويجمعون المنتجات التي تم تصنيعها. وفي المنزل كانت الأسرة بأكملها تعمل معًا لتصنيع الملابس ومنتجات الطعام، والنسيج والمصنوعات الخشبية. وكان العمال أنفسهم مصدرًا للقدرة المستخدمة في التصنيع. وكانت الدواليب المائية مصدرًا للقدرة في بعض الصناعات.
كانت طريقة الحياة تختلف من مكان لآخر، اعتمادًا على المناخ والتربة والبعد عن المدن والطرق التجارية. وكانت حياة معظم الناس القاسية تدور حول المواسم الزراعية (الزراعة والفلاحة والحصاد وتسويق المحصول). وعاش الناس تحت الخوف الدائم لاحتمال فشل محاصيلهم. والكثير منهم عانوا من سوء التغذية. ونتيجة لذلك أصابتهم الأمراض، وشاعت الأوبئة. وقلّ انتاج العمال كما قلّ عدد الذين يحصلون على دخول كبيرة، وانحصرت هذه القلة في ملاك الأراضي الزراعية ورجال الأعمال وذوى المناصب الرفيعة. وكان القليل من المال يدَّخر أو يتم استثماره في مشروعات تجارية. وفي واقع الحال كان هنالك قليل من فرص الاستثمار.
قبل الثورة الصناعية، خضعت معظم الدول الأوروبية لحكم ملكي، كان لملاَّك الأرض الكبار، والتجار الأغنياء، ولبعض رجال الكنيسة في هذه الدول، نفوذ سياسي كبير. لكن العمال والمزارعين خفتت أصواتهم في الحكومة. بل إن الكثير من الدول لم تجر انتخابات. وعلى الرغم من وجود برلمان في بريطانيا، فلم يسمح بالتصويت إلا لدافعي الضرائب من الذكور. وغالبًا فإن قلة من المقترعين هي التي تحدد من يمثل مقاطعة ما في بريطانيا. وقد تغيَّرت كل هذه الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع تطور الثورة الصناعية.
نمو الثورة الصناعية
بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا لأسباب متعددة. منها المخزون الكبير من الفحم الحجري والحديد، وهما المصدران الطبيعيان اللذان اعتمد عليهما التصنيع. بينما كانت المواد الخام الصناعية الأخرى تأتي من مستعمرات بريطانيا. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، صارت البلاد القوة الاستعمارية الرائدة في العالم. ولم تعد مستعمرات بريطانيا مصدرًا للمواد الخام فحسب بل صارت تمثل أسواقًا للمنتجات المصنَّعة. وساعدت هذه المستعمرات في حفز صناعتي النسيج والحديد وهما الصناعتان الأكثر أهمية خلال الثورة الصناعية.
ولقد تنامى الطلب على البضائع البريطانية سريعًا خلال أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وقد دفع هذا الطلب الأعمال الصناعية إلى التنافس فيما بينها على العدد المحدود من العمال وكمية المواد الخام، مما رفع تكاليف الإنتاج وأدى بالتالي إلى تقليل الأرباح. ولم يعد ممكنًا الاستجابة للطلب المتصاعد إلا بزيادة بريطانيا لقدرتها على إنتاج السلع بتكلفة غير باهظة.
رفض التجار البريطانيون رفع أسعار بضائعهم حتى لا يؤدي ذلك إلى الحد من الطلب. وبحثوا عن طرق أكثر اقتصادًا وكفاءة لاستخدام رأس المال والعمال حتى تزيد الكمية التي ينتجها كل عامل بصورة أسرع من زيادة تكلفة الإنتاج. وقد حقق التجار هدفهم عن طريق تطوير المصانع والآلات والمهارات الفنية.
صناعة النسيج. كان أعظم مظاهر الثورة الصناعية إدخال الآلة ذات المحرك في صناعات النسيج في إنجلترا وأسكتلندا. وقد حدث هذا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وأصبح علامة بارزة لبداية عصر المصنع الحديث. وقبل ذلك، كان التجار يشترون المواد الخام ويوّزعونها على العمال الذين يعيشون في أكواخ داخل المزارع أو في القرى. وكان بعض هؤلاء العمال يغزلون ألياف النبات مع الألياف الحيوانية. وآخرون ينسجون الغزل قماشًا. وعرف هذا النظام بالصناعة المحلية أو الصناعة المنزلية.
وفي ظل النظام المنزلي،كان التجار يشترون أكبر كمية من المواد ويستخدمون أكبر عدد يحتاجونه من العمال. ويمولون العمليّة بالكامل، وبعضهم يمتلك معدات الغزل والنسيج وأكواخ العمال. ومع ذلك، تمتع العمال بدرجة كبيرة من الاستقلال. واختاروا أسلوب العمل الذي يروق لهم. وفي بعض الأحيان استعانوا بمن يساعدهم، كما كان لديهم العمال المبتدئون. وغالباً ما قبلوا العمل لدى تجار عديدين في وقت واحد.
أفرز نظام الصناعة المنزلية العديد من المشكلات للتجار؛ فوجدوا صعوبة في تنظيم مقاييس الصَّنْعة والمحافظة على جداول زمنية لإكمال العمل. ومع ازدياد الطلب على القماش، تعيّن على التجار منافسة بعضهم بعضًا في أغلب الأحيان على العدد المتوافر المحدود من العمال في منطقة ما. وأدت كل هذه المشاكل إلى الزيادة في النفقات. ولهذا لجأ التجار وبصورة متزايدة إلى الآلية من أجل إنتاج أوفر، وإلى المصانع من أجل سيطرة مركزية أكبر على العمال.
بدأت الزراعة، وكذلك الصناعة الريفية، تتأثران بالتغيرات التي أحدثها تصنيع إنتاج النسيج. ومن أجل مقابلة الطلب المتزايد على المنسوجات والمنتجات الأخرى؛ بدأ ملاك الأرض بزراعة المواد الخام في أراضيهم مفضِّلين ذلك على زراعة الغذاء. ونُظِّمت المزارع طبقًا لأساليب صناعية، فزاد رأس المال المُستَثْمَر في الزراعة، وتحسنت مستويات الإدارة، كذلك تحسنت نوعية الماشية وبذور المحاصيل تحسناً كبيراً.
آلات الغزل. قبل الثورة الصناعية مورس الغَزْل في المنزل على دولاب الغَزْل. ويتم تشغيل دولاب الغزْل بدفع دواسة القدم. وكان دولاب الغزل ينتج خيطًا واحدًا فقط في المرة الواحدة.
كانت آلات الغزل الأولى أدوات بدائية غالبًا ما تقطع الخيوط الرقيقة. وفي عام 1738م، سجل لويس بول، وهو مخترع من منطقة ميدلسيكس، وجون وايات، وهو ميكانيكي من ليشْفيْلْدْ براءة اختراع لآلة غزل دَوَّارة مطورة تقوم بجذب جدائل المادة خلال مجموعة من البكرات الخشبية المتحركة بسرعات مختلفة، مما يجعل بعضًا من الجدائل مشدودًا أكثر من الآخر. وتصبح الجدائل المشدودة، عندما تُضَم، أقوى من مثيلاتها ذات الشد المتماثل. وتمر الجدائل المُتَضامَّة فوق الطيَّار، (الجزء من الآلة الذي يفتل الجدائل في غزل). ويُلَفُّ الغزل المنجز على مكوك يدور على عمود. ولم تكن آلة الغزل الدوارة ناجحة تمامًا، مع أنها الخطوة الأولى في تصنيع صناعة النسيج.
وفي الستينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، أحدث اختراع آلتين ثورة في صناعة النسيج. كانت إحداهما دولاب الغزل الذي اخترعه جِيمس هارجريفز، وهو غَزَّال ونجَّار من بلاكبيرن، والآلة الأخرى هي دولاب الغزل الهيكلي أو آلة الغزل القديمة التي اخترعها السير ريتشارد أركرايت، من برستون. وقد حلَّت كلتا الآلتين العديد من مشاكل الغزل الدوَّار، خاصة في مجال إنتاج الغزل المُستخدم في صناعة القماش الخشن.
وفيما بين عامي 1774 و 1779م، اخترع نسَّاج من لانكشاير يدعى صمويل كرومتون الميول وهي آلة للغزل تجمع بين سمات المغزلة الآلية ودولاب الغزل الهيكلي، وفي الوقت المناسب حلَّت محلهما. وهذه الآلة ذات فعالية بصفة خاصة في نسج الغزل الناعم للقماش ذي النوعية العالية، المستورد من الهند. وخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، تم تصنيع أحجام أكبر من هذه الآلة، ذات بكرات معدنية، ومئات من الأعمدة. وأنهت هذه الآلات صناعة الغَزْل المنزلي.
ظهر أول مصنع للنسيج في بريطانيا في الأربعينيات من القرن الثامن عشر الميلادي. وبحلول التسعينيات من القرن الثامن عشر، صار بإنجلترا 120 مصنعًا للنسيج، كما تم إنشاء العديد من المصانع في أسكتلندا.
آلات النسيج. حتى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، كان كل النسيج تقريبًا يُنجز على الأنوال اليدوية، إذ إنه لم يتقدم أحد ليحل مشاكل النسيج الآلية. وفي عام 1733م، قام جون كاي، صانع ساعات الحائط من لانكشاير باختراع آلة تحريك مكوك النول. وقامت هذه الآلة بكل الحركات التي يتطلبها النَّسج، لكنها غالبًا لم تؤد عملها في عملية النسج بإتقان تام.
وفي منتصف الثمانينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، قام قسّ يُدعى إدموند كارترايت باختراع نول يعمل بالطاقة البخارية. وفي سنة 1803م، قام جون هُروكس، وهو صانع آلات من لانكشاير، بصناعة نول من المعدن بالكامل. وقام صانعو آلات بريطانيون آخرون بعمل تحسينات إضافية في النول البخاري خلال بدايات القرن التاسع عشر. وبحلول عام 1835 م، كان في بريطانيا 120,000 نول بخاري، استخدم معظمها لنسج القطن. وبعد منتصف القرن التاسع عشر، صارت الأنوال اليدوية تستخدم فقط لصناعة القماش ذي الأشكال الزخرفية والذي استحالت صناعتُه حتى ذلك الوقت على أنوال ذات محرك آلي.
المحرك البخاري. كان العديد من مخترعات الثورة الصناعية الأكثر أهمية يحتاج لقدرة أكبر بكثير مما توفره الخيول أو الدواليب المائية. ولكن الصناعة تحتاج إلى مصدر جديد زهيد السعر وفعَّال من القدرة، وقد وجدته في الآلة البخارية.
تم إنتاج أول محرك بخاري تجاري عام 1698م. وفي ذلك العام سجل توماس سافري، ضابط الجيش من كورنوول، براءة اختراع محرك ضخ يستخدم البخار. وفي سنة 1712م، قام توماس نيوكومن، الحداد من ديفونشاير، بإدخال تحسينات على محرك سافري. وبدأ الاستخدام العام لمحرك نيوكومن خلال العشرينيات من القرن الثامن عشر الميلادي. وكانت بها عيوب أساسية، إذ كانت تهدر الكثير من الحرارة وتستخدم كمية هائلة من الوقود. وفي الستينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، بدأ جيمس واط، الأسكتلندي، العمل لتحسين المحرك البخاري، وبحلول عام 1785م، استطاع أن يتخلص من الكثير من مشكلات المحرك السابق. واستخدم محرك واط الحرارة بطريقة أكثر كفاءة من محرك نيوكومن؛ مع اقتصاد كبير للوقود.
ولم يكن من الممكن تحقيق كفاءة عالية للمحرك البخاري والآلات التي تدار بالقدرة، دون تطوير أدوات تشكيل الفلزات. وعندما بدأ واط تجاربه مع المحرك البخاري، لم يستطع العثور على أداة تمكنه من فتح ثقب تام الاستدارة، ونتيجة لذلك، فقد كان محركه يسرب البخار. وفي سنة 1775م اخترع جون ولكنسون، صانع الحديد من ستافوردشاير، آلة ثاقبة قادرة على إحداث ثقب أكثر دقة. وما بين عامي 1800م و1825م، طوَّر المخترعون الإنجليز مِقْشَطة، لجعل أسطح الأجزاء الفلزية ملساء، في المحرك البخاري. وبحلول عام 1830م، كانت كل الأدوات الأساسية الضرورية للصناعة الحديثة قد دخلت في الاستخدام العام.
الفحم الحجري والحديد. ما كان للثورة الصناعية أن تتطور دون الفحم الحجري والحديد. فالفحم الحجري يوفِّر القدرة لدفع المحركات البخارية، فضلاً عن أهميته لصناعة الحديد. وكان الحديد يستخدم لتحسين الآلات والأدوات ولبناء الجسور والسفن. وساعدت المخزونات الكبيرة من الفحم الحجري والحديد الخام بريطانيا في جعلها الدولة الصناعية الأولى في العالم.
صناعة الحديد الأولى. عند تصنيع الحديد، لابد من فصل المعدن عن الشوائب غير المعدنية التي يحويها خام الحديد. وتُسمَّى عملية الفصل هذه الصهر.وخلال آلاف السنين التي خلت قبل الثورة الصناعية، كان صهر الحديد يتم بوضع الخام في فرن ذي وقود محترق، يفتقر إلى الأكسجين اللازم لإتمام الاحتراق الكامل. وكان الأكسجين الموجود في الخام يتحد مع الوقود، ويتدفق الفلز الخالص السائل في قوالب صغيرة تسمى الكُتَل، وتُضْرَب الكتل بالمطرقة اليدوية لتحوَّل إلى ألواح. ومع بدايات القرن السابع عشر الميلادي، كانت الكتل تُشحن بالسفن إلى معامل الصفائح حيث تُليَّن كتل الحديد بتسخينها مرة أخرى، ثم تُجعل في صفائح بضغطها بأسطوانات حديدية ثقيلة.
كان الوقود الأكثر ملاءمة للصهر هو الفحم النباتي الذي يتم الحصول عليه بحرق الأخشاب الصلدة. وكان معظم مخزونات بريطانيا من خام الحديد وغابات الأخشاب الصلدة آنذاك في المناطق الريفية. وهكذا فإن الصهر وصنع الصفائح أصبحا من الأنشطة الريفية التي يضطلع بها العمال المحليون. ومنذ القرن السابع عشر الميلادي استخدم الفحم النباتي في عمليات تصنيعية عديدة أخرى إلى جانب الصهر والتصفيح، هذا إلى وجود طلب على الخشب لأغراض أخرى. ونتيجة لذلك استنفدت بريطانيا الكثير من غاباتها.
انطلاق صناعة الحديد. نجح صانع الحديد أبراهام داربي في شروبشاير في استخدام الفحم الحجري المعروف بالكوك لصهر الحديد مابين عامي 1709 و1713م. ويصنع الكوك بتسخين الفحم الحجري في فرن محكم السد. وكان الصهر الذي يتم باستخدام الكوك اقتصاديًا وفعَّالاً، بدرجة تفوق كثيرًا عملية الصهر بالفحم النباتي. لكن معظم صنَّاع الحديد استمروا في استخدام الفحم النباتي، واشتكى المصنِّعون من كون الحديد المصهور بالكوك هشًا ولايمكن استخدامه بسهولة. وظلوا يفضلون الحديد المصهور بالفحم النباتي، لأنه أكثر ملاءمة للتشكيل. وفي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، طور أحد أبناء أبراهام داربي عملية جعلت حديد الكوك في سهولة حديد الفحم النباتي من حيث التشغيل. وبعد عام 1760م، انتشر الصهر بالكوك في كل أنحاء بريطانيا.
وفي العشرينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، حدث فتح جديد في تصفيح الحديد، وأضيفت حزوز (أخاديد) لأسطوانات التصفيح مما مكن الصناع من دلفنة الحديد في أشكال متعددة، بدلاً من مجرد الألواح الرقيقة.
حاز واحدٌُ من صناع الحديد من فيرهام يُدعى هنري كورت براءة اختراع دلافين محزَّزة محسَّنة عام 1783م، وفي السنة التالية سجَّل براءة اختراع فرن عرف بفرن التسويط. ولم يكن كورت قد اخترع هذا الفرن، لكنه أضاف تحسينات عظيمة عليه، مما أنتج نوعية عالية الجودة من الحديد، ذلك بأنه يعاد تسخين كتل الحديد في فرن التسويط حتى تصبح عجينًا، وكان شخص يعرف بالسواط يقوم بتحريك العجين بوساطة قضبان حديدية حتى يتم حرق المواد غير الخالصة. ومن ثم، يتم تمرير الحديد الخالص داخل دلافين كورت المحززة، ويشكَّل في الهيئة المطلوبة.
قبل أن يطور كورت فرن التسويط، كان على صناع الحديد أن يستخدموا الفحم النباتي لإعادة تسخين كتل الحديد قبل التصفيح. لكن فرن كورت ـ بطاحونه الدوار المزدوج ـ كان يستخدم فحم الكوك. وهكذا حرَّر استخدام الكوك للصهر والخلط، في نهاية الأمر، صناعة الحديد البريطانية من الاعتماد على الفحم النباتي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن خطوات الصهر، والخلط والدلفنة، بات من الممكن توحيدها في عملية مستمرة، والقيام بها في مكان مناسب بالقرب من حقول الفحم. ونتيجة لذلك، أصبحت صناعة الحديد البريطانية تتمركز في أربع مناطق لمناجم الفحم ـ ستافورد شاير، ويوركشاير، وساوث ويلز، وعلى امتداد نهر كلايد في أسكتلندا.
استمرت تقنيات صناعة الحديد في التحسن وزاد الإنتاج. ففي عام 1788م، مثلاً، أنتج مصنِّعو الحديد البريطانيون حوالي 68,900 طن متري من الحديد. وفي عام 1806م، أنتجوا أكثر من ثلاثة أضعاف تلك الكمية. وخلال منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، تم تصنيع ما نسبته 5% فقط من كل الحديد البريطاني كأجزاء للآلات. وكانت معظم الآلات مصنوعة من الخشب بما في ذلك هياكل الآلات والقضبان وأجزاء الآلات البخارية وأنابيب الماء.
النقل والمواصلات. اعتمد نمو الثورة الصناعية على قدرة الصناعة على نقل المواد الخام والبضائع المصنَّعة عبر المسافات الطويلة. وهكذا فإن قصة الثورة الصناعية هي أيضًا قصة الثورة في النقل.
المجاري المائية. كان لبريطانيا العديد من الأنهار والمرافئ التي كان من الممكن تهيئتها لنقل البضائع. وحتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كانت المجاري المائية توفر الوسيلة الزهيدة والفعالة الوحيدة لنقل الفحم الحجري والحديد والحمولات الثقيلة الأخرى.
قام المهندسون البريطانيون بتوسعة العديد من الأنهار وتعميقها، لتصبح صالحة للملاحة. كما قاموا ببناء القنوات لربط المدن، وربط حقول الفحم الحجري بالأنهار. ففي عام 1777م، ربطت قناة جراند ترنك نهر ميرسي مع نهري ترنت وسيفرن؛ وبذلك رُبطت موانئ بريستول وهل وليفربول البريطانية. كذلك أنشأ المهندسون العديد من الجسور والمنارات وعمقوا المرافئ.
في عام 1807م، بنى المخترع الأمريكي روبرت فولتن أول مركب بخاري ناجح تجاريًا. وخلال سنوات قليلة، أصبحت البواخر أمراً عاديًا على الأنهار البريطانية. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت السفن ذات الدفع البخاري قد بدأت في نقل المواد الخام والبضائع المصنَّعة عبر المحيط الأطلسي.
الطرق. حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الطرق في بريطانيا متواضعة. وكانت العربات التي تجرها الخيول تتنقل بصعوبة، كما كانت حيوانات الحمل تحمل البضائع لتقطع بها مسافات طويلة. وكان الناس يسافرون على ظهور الخيول أو يتنقلون راجلين.
بُنيت سلسلة من الطرق الرئيسية بين عامي 1751 و1771م، مما جعل السفر بالعربات والحافلات التي تجرها الخيول أكثر سهولة. لكن الطرق الرئيسية كانت في حاجة ماسة للإصلاح بحلول أواخر القرن الثامن عشر.
وخلال أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حقق المهندسان الأسكتلنديان جون لودون مك آدم وتوماس تلفورد، نجاحات مهمة في مجال إنشاء الطرق. فقد ابتدع مك آدم نوعًا من الأسفلت المعروف باسم المكادم، والذي يتكون من الصخر المسحوق المضغوط في طبقات رقيقة، أما تلفورد فقد طور أسلوبا لاستخدام الأحجار الضخمة المستوية في أساسات الطرق، وجعلت هذه الأساليب الجديدة في بناء الطرق، السفر البري أسرع وأكثر راحة. ونتيجة لذلك، أمكن إيصال البضائع المصنعة بطريقة أكثر فعالية. وكذلك أمكن للمستلزمات والأموال المستخدمة في الأعمال التجارية والصناعية أن تستثمر بطريقة أسرع وأكثر بساطة.
السكك الحديدية. كان أول ما نقلته شبكات السكك الحديدية الأولى هو الفحم الحجري. وكانت الجياد تجرُّ عربات تسير على خطوط حديدية. وفي عام 1804م، قام مهندس من كورنوول هو ريتشارد تريفيثيك ببناء أول قاطرة بخارية. وبنيت قاطرات عديدة أخرى خلال السنوات العشرين التالية. استخدمت لنقل الشحنات من مناجم الفحم الحجري ومصانع الحديد. ومع ذلك كانت الصناعة تفضل، بشكل عام، استخدام الآلات الثابتة التي كانت تجر عربات الشحن بوساطة الكبلات. ولم يبدأ الاستخدام العام للقاطرات البخارية بوصفها وسيلة لنقل الركاب والبضائع حتى أوائل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر الميلادي.
دور رأس المال. أدى المستثمرون الأفراد دورًا حيويا في نمو الثورة الصناعية منذ البداية. وخلال القرن الثامن عشر الميلادي، حقق الكثير من التجار الإنجليز ثروة من الحروب الأوروبية، ومن تجارة الرقيق. وبدأ هؤلاء التجار وبعض الإنجليز الآخرين البحث عن فرص استثمارية بعد أن علموا بالأرباح الكبيرة التي حققتها الصناعات. وبالتدريج تم إنشاء المصارف لتعمل على تنظيم التدفق المتزايد من النقود. وفي عام 1750م، كان في لندن 20 مصرفًا. وبحلول القرن التاسع عشر، ضمت المدينة 70 مصرفًا.
لم تستثمر معظم المصارف بطريقة مباشرة في المصانع، كما لم تمد أصحاب المصانع بالقروض لشراء الآلات، لكن بعضها، على كل حال، قدَّم قروضًا قصيرة الأجل للصناعيين لتغطية تكاليف التشغيل. وقد مكنت مثل هذه القروض الصناعيين من استخدام أموالهم الخاصة لشراء المعدات وتحسين مصانعهم وتوسيعها. ووفرت المصارف بشكل رئيسي التسليف للمزارعين ولبائعي الجملة ولتجار التجزئة الذين كانوا يتقدمون بطلب الشراء من المصنِّعين بعد ذلك. في الوقت الذي أصبحت فيه الآلات والمصانع أكثر غلاء، أصبح الأفراد الذين يوفرون رأس المال مهيمنين بدرجة متزايدة. وفي وقت قصير، أصبح هؤلاء الرأسماليون الصناعيون ضمن القوى الأكثر نفوذًا في المجال التجاري والسياسي البريطاني.
الحياة خلال الثورة الصناعية
أحدثت الثورة الصناعية تغيرات عظيمة في طريقة حياة الناس، وبرزت التغيرات الأولى محليًا. ولكن بحلول أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، أدرك معظم الناس الثورة الاقتصادية والسياسية التي شملت البلاد. وانتشرت الامتيازات التعليمية والسياسية التي كانت في وقت ما حكرًا على الطبقة العليا بين الطبقة المتوسطة المتنامية. وحلَّت الآلات محل بعض العمال، لكن آخرين حصلوا على فرص جديدة في العمل مع الآلات. وعلى الرغم من ذلك، عاش معظم العمال تحت ظروف قاسية في المدن الصناعية المتوسطة.
الطبقة العاملة. احتفظ بعض أصحاب الأعمال في السابق بعلاقات طيبة مع عمالهم على المستوى المحلي، واستشعروا نوعا من المسؤولية تجاههم. لكن مثل هذه العلاقة أصبحت غير ممكنة بعد الثورة الاقتصادية الكبيرة. فقد وظَّف الصناعيون الكثير من العمال، ولم يكن باستطاعتهم التعامل الشخصي معهم. وقد فرضت الآلات على العمال أن يعملوا في المصانع بطريقة أسرع ودون راحة، وأصبحت الوظائف أكثر تخصَّصًا كما أصبح العمل رتيبًا.
كانت أجور المصانع متدنية، والنساء والأطفال يشتغلون عمَّالاً غير مهرة، ولا يحصلون إلا على جزء يسير من أجور الرجال المتدنية. والأطفال ـ ومعظمهم دون العاشرة ـ يعملون مابين 10 و14 ساعة في اليوم. وقد أصبح بعضهم مشوَّهًا بسبب عملهم، أو مقعدًا بسبب الآلات الخطرة.
كان معظم عمال المصانع فقراء وأميّين ولم يكن السكن في المدن الصناعية المتنامية قادرا على مواكبة هجرة العمال من المناطق الريفية. ونتج عن ذلك زحام زائد وحاد، وعاش الكثير من الناس في ظروف غير صحية إلى حد بعيد، مما أدى إلى تفشِّي الأمراض.
حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي،تمتع أصحاب الأعمال البريطانيون عادة بالميزات في علاقاتهم مع مستخدميهم، ولم يكن مسموحًا للعمال بفعل شيء يذكر من الناحية القانونية لتحسين وضعهم. وحظر القانون البريطاني قيام اتحادات العمل.
ومع ذلك، قام بعض العمال بتكوين اتحادات عمل. وكذلك أضرب الكثير منهم عن العمل أو قاموا بأعمال شغب، وحطَّموا الآلات احتجاجًا على أجورهم المتدنِّية وظروف عملهم المزرية. وفي عام 1769م، أجاز البرلمان قانونًا جعل تحطيم نوع معين من الآلات جرمًا عقابه الإعدام. لكن العمال استمروا في القيام بالشغب ضد الآلات، ففي عام 1811م، قامت مجموعة من العمال المستأجرين والعاطلين بتحطيم آلات النسيج، وعرفوا باسم اللوديين، وصار هذا اسمًا لمحطمي الآلات. ثم تحسنت الأوضاع العملية والمعيشية للطبقة العاملة تدريجيا، وبدأ البرلمان ـ الذي كان إلى حد كبير يمثل الطبقة العليا ـ في العمل من أجل مصالح الطبقات المتوسطة والعاملة. فصدر قانون يمنح حق التصويت للطبقة المتوسطة عام 1832م، ثم مُنح حق الاقتراع للعمال عام 1867م.
الطبقتان الوسطى والعليا. أمدت الثورة الصناعة الناس بمنتجات وفرت وسائل جديدة للراحة، وملائمة لمن يستطيعون الحصول عليها. وحصلت الطبقة المتوسطة، التي كانت تتكون من أصحاب الأعمال والمهن، على مكاسب سياسية وتعليمية. ومن ثم أصبحت تتمتع بأهمية سياسية متزايدة. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كانت مصالح الأعمال التجارية قد سيطرت بدرجة كبيرة على سياسات الحكومة البريطانية.
قبل الثورة الصناعية، كان في إنجلترا جامعتان فقط، هما جامعة أكسفورد وجامعة كمبردج. لكن الثورة أبرزت الحاجة إلى المهندسين وإلى الكتبة والعمال المهنيين. ونتيجة لذلك أصبح التعليم أمرًا حيويًا، فقام بعض الأفراد والجماعات بإنشاء بعض المكتبات والمدارس والجامعات.
ساعدت الثورة الصناعية بطريقة غير مباشرة في زيادة عدد سكان بريطانيا. وتحسن الوضع المادي للطبقة العاملة أيضًا. وحدث ازدياد سريع في عدد السكان، يرجع جزئيًا إلى هذه الظروف الجديدة. ففي عام 1750م، كان عدد سكان بريطانيا نحو 6,5 مليون نسمة، وفي عام 1830م بلغ العدد نحو 14 مليون شخص.
انتشار الثورة الصناعية
بدأت أساليب التصنيع تنتشر من بريطانيا إلى الأقطار الأخرى سريعًا بعد بداية الثورة الصناعية . وحاولت بريطانيا أن تمارس احتكاراً على مكتشفاتها ومهاراتها، ومنعت هجرة العمال الحرفيين وأيضا تصدير الآلات. ورغم ذلك فقد غادر بريطانيا المئات من العمال المهرة والمصنِّعين، مصطحبين معهم المعارف الجديدة عن الصناعة.
في عام1750م استقر الصانع اللانكشايري جون هولكر في فرنسا، حيث ساعد في تحديث طرق الغزل في صناعة النسيج. وفي عام 1789م هاجر صمويل سليتر ـ وهو عامل نسيج من ديربيشاير ـ إلى الولايات المتحدة حيث بنى مصنعًا للنسيج في رودآيلاند، وانتقل وليم كوكريل ـ وهو نجار من لانكشاير ـ إلى بلجيكا عام 1799م وبدأ تصنيع آلات النسيج. وفي سنة 1817م، أنشأ جون بن كوكريل مصانع بالقرب من لييج أنتجت مواد الجسور والمدافع والقاطرات والآلات البخارية.
وسمح بعض المُصنِّعين في بريطانيا لبعض الأشخاص من الأقطار الأخرى بتفقد مصانعهم. وفيما بين عامي 1810 و 1812م، قام فرنسيس كابوت لوويل، رجل الأعمال الأمريكي، بزيارة مصانع لانكشاير للنسيج. وعاد لوويل إلى الولايات المتحدة لينشئ مصنعًا للنسيج في والثام، في ماساشوسيتس. وكان هذا واحدًا من المصانع الأولى في العالم التي جمعت تحت سقف واحد كل عمليات تصنيع القماش القطني. وفي عام 1838م، جاء الصناعي الألماني الشهير ألفرد كروب إلى شفيلد، حيث تعلم أحدث الطرق في عمليات تصنيع الفولاذ.
ومع نمو الثورة الصناعية، ازداد تدفُّق رأس المال البريطاني إلى الدول الأخرى. ومع ظهور السكك الحديدية، أصبح هذا التدفق فيضانًا. وقد موّلت الشركات البريطانية تصدير القاطرات، وحديد القضبان، والخبراء لإنشاء وتشغيل خطوط السكك الحديدية في العديد من الأقطار في كل أنحاء العالم.
بلجيكا. أصبحت الدولة الثانية في التصنيع. وفيما بين عامي 1830 و1870م طوَّرت البلاد سريعًا صناعتها الثقيلة بعون مالي كبير من الحكومة. فصناعة النسيج، التي كانت مهمة في بلجيكا لسنوات عديدة، تم تطويرها. ونمت مدن غنت ولييج وفيرفيرس لتصبح مراكز رئيسية لصناعة النسيج.
فرنسا. بدأت التصنيع خلال منتصف القرن الثامن عشر، لكن التقدم توقف في أواخر ذلك القرن وبداية القرن التاسع عشر الميلادي بسبب الثورة الفرنسية والحروب التي دخلها حاكم فرنسا نابليون بونابرت. وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان أكثر من نصف إنتاج فرنسا من الحديد لا يزال يأتي من أفران الفحم النباتي بالطريقة العتيقة المكلفة. ومع ذلك فقد حل فحم الكوك في ذلك الحين محل الفحم النباتي في الصهر والخلط.
أعاق نظام النقل الردىء الصناعة الفرنسية خلال معظم القرن التاسع عشر الميلادي. وعانى نظام النقل من وضع سيء خلال الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. وبالرغم من أن الحكومة قد عمقت ووسعت العديد من الأنهار والقنوات، فإن هذه التحسينات لم تلب حاجات الصناعات النامية في فرنسا. وفي عام 1842م، وافقت الحكومة أيضًا على إنشاء شبكة سكك حديدية قومية، لكن الكثير من التعقيدات سببت تأخيرًا طويلاً في إنشائها. وظلت فرنسا إلى حد كبير بلداً يعتمد على المزارع والأعمال التجارية الصغيرة. وبعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م)، بدأت الحكومة الفرنسية سلسلة من الخطط القومية لتحديث الاقتصاد.
ألمانيا. كانت تمتلك الموارد الطبيعية التي يحتاجها التصنيع، لكن عوائق سياسية واجتماعية أقعدت البلاد. وقبل توحيدها عام 1871م، ظلت ألمانيا مجموعة من الولايات المنفصلة التي كانت عاجزة في معظم الوقت عن التعاون الاقتصادي فيما بينها. وإضافة إلى ذلك، فإن مجموعة صغيرة من ملاك الأراضي سيطرت على جزء كبير من الأرض. وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي اتخذت الحكومة الألمانية خطوات تدريجية من أجل التطوير الصناعي للأرض ومعادنها. وفي ذات الوقت، نجحت دولة بروسيا في ترتيب اتفاقيات بين الولايات الألمانية على تعريفات جمركية عامة (قوائم تحدد أسعار).
وما بين عامي 1830و 1850م، تضاعف إنتاج الفحم الحجري في ألمانيا. وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ تعدين خام الحديد في الزيادة بشكل كبير. ونتيجة لذلك ازداد أيضًا عدد الأفران المزوَّدة بوقود فحم الكوك سريعًا. وقد وفَّر المستثمرون الأجانب ومصارف الاستثمار الألمانية الجديدة المال لصناعة الحديد المزدهرة. كما بدأ إنتاج ألمانيا من الفولاذ في النمو السريع في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وبحلول عام 1900م، فاق إنتاجها من الفولاذ إنتاج بريطانيا، وجاء في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة الأمريكية. حدث أول تصنيع خارج أوروبا في المستعمرات البريطانية التي أصبحت الولايات المتحدة فيما بعد. ونشأت بالمستعمرات مجموعة واسعة من الصناعات، كان أكثرها نجاحاً بناء السفن. وبحلول الوقت الذي أعلنت فيه المستعمرات استقلالها عام 1776م، صار نحو ثلث عدد السفن البريطانية يتم بناؤه في أمريكا. وكان تصنيع الحديد أيضًا من الصناعات الرئيسية؛ كما كان عدد قليل من الشركات الأمريكية يصدِّر الحديد إلى بريطانيا.
بحلول أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، طورت صناعة الأسلحة الخفيفة آلات وأدوات صالحة لإنتاج أجزاء من القطع بمواصفات ثابتة للإنتاج بالجملة. وبدأ الإنتاج الصناعي، خاصة إنتاج النسيج والمعادن الخفيفة، في الزيادة الكبيرة في الولايات المتحدة، في العشرينيات من القرن التاسع عشر الميلادي. وقد حدث أعظم الزيادات في التصنيع في نيوإنجلاند. وأفاد التصنيع أيضًا من التحسينات التي تم تنفيذها في الأنهار والقنوات. فقد قلصّت هذه التحسينات تكلفة نقل البضائع إلى المناطق الداخلية للبلاد ومنها.
وبداية من ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي، انتشر التصنيع سريعًا في كل الأنحاء الشرقية للولايات المتحدة. وعلى وجه الخصوص حققت صناعة الحديد في بنسلفانيا تقدما عظيما، إذ إن الحديد قد تمت ملاءمته لتصنيع الآلات الزراعية، وقضبان السكك الحديدية ومجالات متعددة من الاستخدامات الهيكلية. وبحلول الخمسينيات من القرن التاسع عشر الميلادي، مكَّنت نوعية الحديد الأمريكي وسعره مصنِّعي الحديد في الولايات المتحدة من منافسة مصنِّعي الحديد في بريطانيا في الأسواق العالمية.
وخلال منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، توسعت الصناعات الزراعية والإنشاء والتعدين مع انتشار السكان غربًا. وكان التصنيع قد بلغ أقل من خمس إنتاج الولايات المتحدة في عام 1840م. وبحلول عام 1860م، بلغ الثلث. ومع ذلك فإن المنتجات الزراعية كونت أكثر من ثلثي قيمة كل صادرات الولايات المتحدة في عام 1860م. وكانت البلاد لاتزال تستورد من البضائع المصنَّعة أكثر مما تصدِّر. ولكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الولايات المتحدة كبرى الدول الصناعية وأكثرها منافسة في العالم.
وبحلول عام 1870م، كانت ملامح الثورة الصناعية قد بدت واضحة في كل الدول الصناعية. وتقدمت الصناعة بدرجة أكبر من الزراعة. وكانت البضائع تصنع بالآلات ذوات المحركات وتجمَّع في المصانع، حيث كانت الإدارة هي التي تخطط للعمليات. وتنحصر مهمة العمال إلى حد كبير في مراقبة الآلات. وسيطر رأس المال على الإنتاج الصناعي. وسُمِح للعمال بإنشاء تنظيمات نقابية للمطالبة بأجور أعلى وساعات أقل وظروف عمل أفضل. وقلصت السكك الحديدية والسفن الشراعية المطوَّرة والسفن البخارية والبرق تكلفة النقل والاتصال وزمنهما. وصارت المستويات المعيشية للعمال في الدول الصناعية أعلى مما كانت عليه سابقًا. ونما عدد السكان سريعا، وأخذت أعداد أكبر من الناس تعيش في المدن أكثر من السابق. وحيثما انتشرت الثورة الصناعية كانت تقضي على طريقة الحياة التقليدية. ولكن مع تقدم الثورة الصناعية في كل دولة، بدأت أعداد متزايدة من العمال، في تقبُّل الروتين والنظام، المصاحبين للتصنيع.
أسئلة
من محطمو الآلات؟
ما النظام المنزلي أو نظام الصناعة المحلية؟
ما الصناعتان اللتان يمكن وصفهما بأنهما كانتا الأكثر أهمية في بريطانيا تقريبًا خلال الثورة الصناعية؟
ما العوائق التي أقعدت التصنيع خلال أوائل القرن التاسع عشر الميلادي؟
لماذا كان تطوير الآلة البخارية مهما في نمو الثورة الصناعية؟
ما الأسباب التي جعلت الثورة الصناعية تبدأ في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر الميلادي؟
لماذا كانت المجاري المائية مهمة بوجه خاص في الثورة الصناعية؟
ما الدور الذي أدته المصارف في الثورة الصناعية؟