مقالة جدلية حول الأخلاق بين المنفعة و المجتمع
مقدمة: إن من أوغل الاهتمامات في التاريخ البشري الأخلاق وهي جملة من القيم و الأفعال تقوم على أحكام تقديرية لا تصبوا إلى وصف ماهو كائن و إنما التوجيه نحو ما ينبغي إن يكون عليه السلوك الإنسان و غايتها من هذا السلوك التقويم و الإرشاد ومعنى ذلك إن الفعل الخلقي يستند دائما إلى قيمة خلقية غير إن أساس و مصدر هذه الأخيرة أثارت جدلا بين الفلاسفة والعلماء فالمشكلة المطروحة:هل مصدر الإلزام الخلقي تكمن في طبيعة الإنسان أم المجتمع؟
التحليل(محاولة حل المشكلة) عرض الأطروحة الأولى:يرى أنصار هذه الأطروحة إن أساس القيمة الأخلاقية المجتمع حيث لم ينضروا إلى الإنسان على أساس انه كائن منزوع من الواقع بل كائن ومنخرط في جماعة و تحيط به ظروف معينة و يتأثر بها فالخير عندهم مجرد مصطلح تعارف عليه الناس في زمان و مكان محددين و هو متغير حسب الأحوال و الظروف الاجتماعية ولذلك رفعوا شعارهم
و من ابرز فلاسفة المجتمع نجد
"أميل دوركايم" الذي رأى إن أصل القيم الأخلاقية هو المجتمع و في هذا الصدد قال
:{إذا تكلم الضمير فينا فان المجتمع هو الذي يتكلم}فالأخلاق خلقت من اجل المجتمع و المجتمع هو الذي خلقها و هذا ما أكد عليه في قوله أيضا:{
لسنا سادة تقويما بل المجتمع هو الذي يفعل ذلك}فما وافق عليه المجتمع هو خير و ما خالفه هو شر,و في نفس السياق هذا ما ذهب إليه
" بيارجانيه"الذي رأى إن الطفل يستمد عاداته الأخلاقية من المجتمع,و تربية الواليين و الحياة اليومية و شبه المجتمع بالمتجر الكبير الذي يختار منه الفرد ما يشاء و حجتهم في ذلك إن الفرد عاجز عن بناء حياة بمعزل عن الجماعة و انه من الضروري الانخراط في الجماعة و التأثر بهم,و نفسي الإطار هذا ما أكد عليه المفكر"
زكريا إبراهيم"إن لكل مجتمع من العادات و الأخلاق ما ينسجم مع التركيبة البشرية و في هذا السياق قال:{
إن شواهد التاريخ تؤكد إن لكل مجتمع من العادات ما يتلاءم مع تركيبته البشرية}وعليه فان أصل القيمة الأخلاقية هو المجتمع وعلى هذا الأساس فإنها متغيرة من زمان إلى زمان و من مجتمع إلى أخر.
نقد: لو كان المجتمع هو الذي يفرض على إفراده هذه القيم و يطبعهم بطابعه لكان من المفروض ان يسود الثبات لا التغير و التطور داخل المجتمعات و يزول الاختلاف بين المجتمعات و بماذا يمكن تفسير ظهور العلماء و المصلحين و عليه فان أطروحتهم نسبية من حيث الشكل و المضمون.
عرض الأطروحة الثانية:وعلى نقيض الأطروحة الأولى يرى أنصار هذه الأطروحة إن أساس القيمة الأخلاقية تكمن في طبيعة الإنسان التي تدفعه إلى طلب اللذة و تمسك بها ,فاللذة خير و الم شر و برأيهم إن الإنسان أناني يبحث دائما عن مصلحته و القيم التي يؤمن بها هي التي تتلاءم مع هذه المصالح و يعود هذا الرأي إلى
" ارستب بوس"و يتجلى ذلك في قوله
":{اللذة هي الخير اََََلاعضم هذا هو صوت الطبيعة فلا خجل ولإحياء}و هو يرى إن الذات الفردية هي أساس القيمة الأخلاقية ,غير إن
" ابيقور" فضل الذات المعنوية على حساب الذات الحسية ,كالتأمل الفلسفي و هو يرى إن اللذة هي شرط السعادة و مقياس الأفعال و في هذا الصدد قال
:{اللذة هي بداية حياة سعيدة و غايتها هي ما ننطلق منه لنحدد ما ينبغي فعله و ما ينبغي تجنبه}و في العصر الحديث ضهر ما يسمى بالمذهب "
المنفعة العام" على يد فلاسفة الإنجليز و منهم
"بنتام,و جون ستيوارت"حيث نقل
" بنتام" موضوع الأخلاق من المجال الفلسفي إلى المجال التجريبي , و يتجلى ذلك في "
مقياس حساب الذات"و وضع شروط وفي هذا السياق قال
:{اللذة إذا اتحدت شروطها كانت واحدة لدى الجميع} أولها شرط
"الصفاء"كون يجوب اللذة خالية من الألم,شرط "
الشدة"أي شدة اللذة أو ضعفها هو الذي خيرتها أو شرها ,و أهم هذه الشروط على الإطلاق شرط"
المدى"أي امتداد اللذة إلى أكبر عدد ممكن من الناس غير أن تلميذه "
جون ستيوارت"نضر إلى موضوع الأخلاق من زاوية الكيف و ليس الكم و في نضره أن شقاء الإنسان مع كرامته أفضل من حياة خنزير متلذذ و هذا واضح في قوله في احد نصوصه:{
إن يعيش الإنسان شقيا أفضل من أن يعيش خنزيرا راضيا و أن يكون سقراط شقيا خير من أن يعيش سخيفا سعيدا}وعليه فان أساس القيمة الأخلاقية المنفعة.
نقد:هذه الأطروحة نسبية لأن المنفعة معيار متغير ,فما ينفعني لا ينفع غيري بالضرورة ومن هذا المنطلق يحدث تضارب في القيم الأخلاقية و تفقد الأخلاق قديستها و بريقها.
التركيب:رغم ما يبدو من التعارض الظاهري بين مذهب المنفعة والنظرية الاجتماعية إلا أنه في العمق لا بد من التكامل بين المذاهب الأخلاقية و الأخلاق الحقيقية هي التي يحدث فيها التكامل بين مصالح الإفراد و متطلبات المجتمع و العقل الخاضع للدين هو من يستطيع فعل ذلك حيث قال"
فيخته":{الأخلاق من غير دين عبث}ذلك أن الدين يرشد العقل و يهذب المصلحة ,و يحقق الإلزام الخلقي أمام الله و المجتمع وهذا الحل التوفيقي نجده بكل وضوح عند "
أبو حامد الغزالي"الذي قال:
{حسن الخلق يرجع إلى اعتدال العقل و كمال الحكمة و اعتدال الضب و الشهوات و كونها للعقل والدين مطيعة}. الخاتمة: و مجمل القول أن الأخلاق مجموعة من القواعد و الأحكام التقديرية التي تحدد الخير و الشر و قد تبين لنا من خلال التحليل أن المشكلة المطروحة تتعلق بمعيار الأخلاق حيث تطرقنا بالتحليل و النقد إلى أطروحتين النظرية النفعية و النظرية الاجتماعية ,و كمخرج للمشكلة نستنج أن الأخلاق تتم عن تفاعل و تكامل المنفعة مع مطالب المجمع و تفاعل العقل مع الدين.