الجيل القادم من الحاسبات.. أجهزة بمكونات حية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


قد لا يختلف اثنان على أن الكمبيوتر "كجهاز يمثل واحدة من أهم صور الحضارة الإنسانية حالياً. فهو بتنوع استخداماته بدءاً من إجراء العمليات الحسابية الدقيقة، مروراً بتأليف المقطوعات الموسيقية، وانتهاء بتسيير مركباتنا الفضائية عبر أجواز المجموعة الشمسية، يعطي الانطباع بأنه قادر على فعل كل ما يمكن أن نفعله نحن وأكثر!
لكن هذه العبارة الأخيرة ليست صحيحة بحال. وحتى بغض النظر عن المسلّمة القائلة بعدم منطقية مقارنة العقل البشري الذي أحكم الله تعالى خلقه مع ما صنع الإنسان، فإن الملاحظات العلمية هي الأخرى تساند الرأي الآخر القائل: بـ"أن العقل الإلكتروني متخلف بمراحل عن العقل البشري". لو أردنا صياغة العبارة بشكل أكثر دقة فإننا سنقول: "إن الكمبيوتر قادر على فعل كل شيء يمكن تمثيله على هيئة تسلسل منطقي للأحداث، هو قادر على القيام بأي مهمة يمكن تلقينها على هيئة خطوات منتظمة، برنامج كما في لغة الكمبيوتر". وهذا التعريف لإمكانات الكمبيوتر يدفعنا لاستبعاد الإبداعات غير المحكومة بنسق يمكن تحويله لمجموعة من الخطوات الآلية. الكمبيوتر لا يمكن أن يمارس فعل الكره أو السعادة، وهو عاجز عن استنباط حقائق بدهية، مثل كون الأب دوماً أكبر من ابنه! هذا العجز عن التفكير المنطقي والتعبير عن الذات، ظل ملاذاً لمن ينادون بأن الكمبيوتر لن يحل محل العقل البشري ولن يرتقي لمستواه الإبداعي.
من وجهة نظر قائمة على "علم بنية الحاسب الآلي Computer Archtecture" فإن ما تستخدمه اليوم من كمبيوترات إلكترونية يعتمد في أدائه في المقام الأول، على المعالج المصنوع إجمالاً من عنصر نسبة موصل هو "السليكون Si". ربما تحتوي أجسامنا على شيء من السليكون لكننا مكونون في معظمنا ربما في ذلك عقولنا من عناصر عضوية.. كربون وهيدروجين وأوكسجين.. وهي عناصر يفتقدها جيل الكمبيوترات الصناعية الحالي. إنما ليس لوقت طويل!
السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو: لماذا هذا الاهتمام بالوصول بالحاسبات الآلية لمستويات أعلى من الكفاءة ما دامت الأجهزة الموجودة حالياً تقوم بالمطلوب وزيادة؟
هذا القول ربما ينطبق على المستخدم العادي الذي لا تتعدى حاجته لجهاز كمبيوتر إدارة بياناته أو تحرير نصوصه. لكن على مستويات أعلى في معاهد البحوث ووكالات الفضاء وحتى شبكات التجسس عبر الأقمار الصناعية التي تديرها دول فإن قدرات الكمبيوترات المطروحة للاستخدام حالياً هي لا شيء مقارنة لما يطمح للتوصل إليه.
الكمبيوترات المطلوبة لأجل تلك الاستخدامات فائقة التعقيد ينبغي أن تكون أكثر سرعة، وأعظم ذاكرة، وأصغر في مكوناتها ينتظر منها أن تكون كمبيوترات تعمل ذاتياً بلا برنامج مسبق، وأن تكون ذات ذكاء خاص وقدرة ذاتية على التعلم. وهذا كله غير متوفر في أعظم كمبيوتر ابتكر حتى الآن.
وحتى على مستوى "الحاسبات الشخصية Pcs" فإن العامل الاقتصادي يحتم الحاجة إلى تغيير نظرتنا لكيفية صنع جهاز الكمبيوتر. التوجه الحالي هو لتصنيع أجهزة أصغر حجماً. وكلما صغر حجم الجهاز صغر حجم رقاقة السليكون وتطلب الأمر تقنيات أكثر تعقيداً لطبع الدوائر الكهربية عليها. البعض يرى أن الحل، مرة أخرى، يتمثل في استخدام عناصر متوافرة على نحو طبيعي في البيئة لتصنيع وحدات الحاسبات الاصطناعية.. الهيدروجين والكربون والأكسجين من جديد!
هناك نظريتان تمثلان الفكرة الواردة أعلاه؛ أولاهما تسمي جهازها بالـ" Biocomputers أو الكمبيوترات الحيوية". (وهي تلك التي تستخدم مواد حيوية في تكوينها وتعرف بأنها نظم اصطناعية تتمتع بالقدرة على معالجة البيانات على نحو تم اكتسابه بالتعلم الذاتي).
النظرية الثانية تتبنى مبادئ فيزياء الكم لتعطينا "الكمبيوتر الكمي Ruantum Computer" (الذي عوضنا عن الكهرباء)، يستخدم حالات الحركة للذرات السائلة لتمثيل المعلومات. وفيما يلي سنقوم بإعطاء فكرة موجزة عن كلا الجهازين النظريين اللذين قطعت أبحاث إخراجهما لعالم الواقع أشواطاً لا يستهان بها:
أ- الكمبيوتر الحيوي: تخزين البيانات في مستعمرات البكتيريا:
في الأجهزة التي نستخدمها حالياً، فإن تمثيل المعلومات يعتمد على حالتين كهربائيتين هما (صفر فولت وخمسة فولت) تقابلهما حالتان منطقيتان (الصفر والواحد). ويتم حفظ هذه الحالات على أقراص أو أشرطة ممغنطة أو أقراص ضوئية اعتماداً على قوانين الفيزياء والمغناطيسية البحتة. الجديد في الموضوع أن علم الكيمياء الحيوية بدأ يدلي بدلوه في هذا المجال. فهناك نوع من البكتيريا البروتينية اسمه "bacteriorhodopsin" يتواجد طبيعياً في حالتين كيميائيتين تسميان "br و Q" يمكن تشبيههما بالصفر والواحد المنطقيين. وقد توصل العلماء إلى إمكانية التحكم بشرياً في تغيير هذه الحالات بواسطة الليزر. إن استخدام البكتيريا كوسط حافظ للبيانات في الكمبيوتر يشكل حدثاً ثورياً في هذا العلم. ليس فقط لأنه يبشر بإدخال المواد العضوية كمكونات رئيسة في أجهزة الكمبيوتر (تخيلوا لو أمكن يوماً وصل دماغ بشري كامل بالكمبيوتر الصناعي) ولكن حتى في مجال مقارنة الذاكرة البروتينية الجديدة بالذاكرة المغناطيسية القديمة فهناك نقاط عديدة هي في صالح الأولى ضد الثانية منها:-
1- البكتيريا تتيح بسهولة التعامل مع أحجام لوحدات التخزين هي أصغر بمراحل مما يستخدم حالياً.
2- تتمتع هذه المزارع البكتيرية بقدرات خرافية على حفظ كميات هائلة من البيانات على شكل صيغ كيميائية فمكعب واحد من هذه البكتيريا بحجم 1 * 1 * 2 اثنين يمكنه حفظ ما يوازي 10(12) بايتاً.
ب- الكمبيوتر الكمي: كمبيوتر فائق في كوب قهوة:-
عوضاً عن استخدام البروتين كوحدات حفظ وحسب في المثال أعلاه. فإن هذه النظرية تعد بتوفير وحدات حساب كاملة بواسطة الجزيئات السائلة للمادة. ولشرح النظرية بشكل بسيط نذكر القارئ بموضوع الصفر والواحد المستخدمين للتعبير منطقياً عن بيانات الكمبيوتر. إن وجود حالتين اثنتين فقط للتعامل مع البيانات يشكل نقطة ضعف كبيرة في كفاءة أجهزة الكمبيوتر والقدرة على تطويرها. لنا أن نشبه ذلك بعالم ليس فيه إلا لونان فقط الأبيض والأسود ويمكن أن نتخيل الورطة التي سيجد اتحاد الكرة نفسه فيها عند تصميم شعارات الأندية!
المهم أن الأمر هكذا بدأ وهكذا استمر في علم الحاسب الآلي حتى قرر علماء الفيزياء، أن يتقدموا برأيهم. فطبقاً لنظريات فيزياء الكم فإن الإلكترونات حول نواة الذرة ليس لها موقع محدد عند زمان محدد. هناك ما يسمى «بالتواجد في كل مكان في كل وقت» وهذا التواجد المتعدد للإلكترون يعطي عدداً لا نهائياً من الحالات المنطقية في كل وقت. أي أن الإلكترون الواحد يمكن أن يستخدم لتمثيل أكثر من معلومة واحدة في الزمن الواحد.
بدون خوض كثير في هذه النظرية نجمل القول بأن هذه الفكرة تعد بشيء أكثر قوة من أي سوبر كمبيوتر موجود على وجه الأرض، نظرياً فإن أعظم كمبيوتر اخترع حتى الآن - ربما كان موجوداً في وزارة الدفاع الأمريكية - بوسعه أن يحلل عدداً من 400 خانة في عدة بلايين من السنين! تقول النظرية إن الكمبيوتر الكمي المقترح سيفعلها في سنة واحدة.
نشير كذلك إلا أن الموضوع ليس محض خيال. الواقع أنه قد تم تصميم واحدة من الدارات المنطقية المستخدمة في تصنيع لوحات الكمبيوتر بالفعل باستخدام هذه التقنية.
دور العلماء الآخرين:
تجدر الإشارة إلى أن تبني توجهات جديدة في نظرية الحاسب ربما سيسحب البساط من تحت أقدام علماء الرياضيات والمنطق والهندسة الكهربائية الذين أسسوا هذا العلم.
تدريجياً، سيجد علماء الأحياء والكيمياء العضوية وفيزياء الكم أنفسهم معنيين بشكل أو بآخر بطريقة عمل وتصميم الحاسب الآلي.
ولو كان الحاسب سيمتلك لو شاء الله - أي حسٍّ إنساني أو إبداعي فلا شك أن علم النفس سيبتكر لنفسه فرعاً جديداً.. يُعنى بعقلية الحاسب الآلي الذكي