المقدمة
يقصد بتنازع القوانين في القانون الدولي
الخاص التزاحمالذي يكون بين قانونين
أو أكثر من أجل حكم العلاقة القانونية، لا يُقصد من هذاالتعريف المصارعة و الغلبة لأحد القوانين بل نعني
به التنازع بين القوانين أيمفاضلة و
اختيار أنسب القوانين بحكم العلاقة القانونية التي موضوع نزاعها ذات عنصرأجنبي.
ساد هذا المنهج منذ
القرون الوسطى و هو معتمد في جل الأنظمةالقانونية الوطنية فهذا المنهج يقوم على فكرة الإسناد التي مقتضاها
يتم إسنادالعلاقة القانونية ذات
العنصر الأجنبي و المتنازع بشأنها، إلى قواعد التنازع الخاصةبها في القانون الوطني، لكي يتحدد فيما أي القانون
الواجب التطبيق عليها مثال: أنيتقدم
زوج فرنسي بطلب التطليق من زوجته الألمانية أمام القضاء الجزائري فعلى
القاضيالجزائري أن يخضع الطلاق إلى
قانون الزوج وقت رفع الدعوى عملاً بقاعدة الإسناد م 12من ق.م
«القاضي ملزم بالرجوع إلى قواعد الإسناد في قانونه الوطني »
وأهمالمناهج المتبعة حالياً هي المنهج تنازعي هو أن
القاضي الوطني يرجع إلى قواعدالإسناد
التي وضعها المشرع الوطني لمعرفة القانون الواجب التطبيق على العلاقةالقانونية ذات العنصر الأجنبي.
و مثال ذلك اللجوء إلى
المواد من 9-24 من ق.مج، أي أن القاضي
الجزائري ما إذا عرض عليه نزاع أحد أطرافه أجنبي، فلمعرفة القانونالواجب التطبيق فإنه يرجع مباشرة إلى قواعد
الإسناد الجزائرية المحددة بالمواد من
9-24 ق.م.ج.
أما المنهج الموضوعي و
جاء هذا المنهج نتيجة تشابك العلاقاتالتجارية
الدولية أي أنه خاص بالتجارة الدولية حسب فئة تجار الدول وصفوا قواعدموضوعية تطبيق على علاقات التجارة الدولية مباشرة
دون الرجوع إلى قواعد الإسناد والقاضي
ملزم بتطبيقها.
وغيرها من المناهج و
الإتجاهات التي تم التطرق إليهافي هذا
البحث، و من هنا يثور التساؤل حول ما هو نوع المنهج المتبع في التطرف إلىمسألة فض النزاع الدولي الذي يشتمل على عنصر أجنبي.
[/size]
المقدمة.
المبحث الأول:ماهية
التكيف.
المطلبالأول: المقصود بالتكييف وأهميته.
المطلب الثاني: أصل
التكيف.
المبحث الثاني: الاتجاهات
المختلفة بشأن القانون الذي يحكم التكييف و موقفالمشرع الجزائري منها.
المطلب الأول: الاتجاهات
المختلفة بشأن القانون الذييحكم
التكيف.
المطلب الثاني: موقف
المشرع في مسألة التكيف.
الخاتمة.
المبحث الأول: ماهية
التكيف:
إن مرحلة التكيفهي أول ما يتعرض له القاصي عندما يتقدم له مسألة
مشتملة على عنصر أجنبي، إذ يجبعليه
قبل كل شيء أن يُدخل العلاقة المعروضة عليه في نظام من النظم القانونية حتىيعرف ما هو القانون الذي يسند إليه حكمها، أي أن
مرحلة التكيف تسبق بالضرورة مرحلةالإسناد.
حيث أن وظيفة قاعدة
التكيف تنحصر في تركيز العلاقة القانونيةوتحديد القانون الواجب التطبيق تبعا لذلك فان قاعدة التكيف ـ في
الأصل العام ـ ليسلها مضمون موضوعي،
بمعنى أنها تقوم بتحديد القانون الواجب التطبيق على العلاقة فقط،وتنتهي وظيفتها عند هذا الحد فهي لا تتكفل مباشرة
بإعطاء الحل النهائي للنزاع.
المطلب الأول: المقصود
بالتكييف وأهميته:
الفرع الأول: المقصودبالتكييف:
إن أول ما يتصدى له
القاضي وهو بصدد الفصل في نزاع ذي طابع دوليهو تحديد الوصف القانوني للمسألة أو العلاقة موضوع النزاع بقصد
إدراجها في أحدالطوائف التي خصها
مشرعه بقاعدة إسناد، وتسمى هذه العملية بالتكييف
وهكذايمكن تعريف التكييف في القانون الدولي الخاص بأنه «
تحديد طبيعة المسألة التيتنازعها
القوانين لوضعها في نطاق طائفة من النظم القانونية لكي يسند حكمها إلىقانون معين».
ولذا ارتبطت مشكلة
التكييف بمشكلة تحديد قاعدة الإسناد الواجبةالتطبيق، فإذا عرض على القاضي نزاع بصدد مسألة معينة تحتم عليه أولا
تحديد الطبيعةالقانونية لهذه المسألة
أو تحديد الوصف القانوني لها، هل هي من مسائل الشكلوبالتالي يتعين عليه تطبيق قاعدة الإسناد التي اختص
بها المشرع طائفة الإشكالالقانونية،
أم أن هذه المسألة تعد من مسائل الأهلية وبالتالي يتعين عليه تطبيققاعدة الإسناد الخاصة بطائفة الأحوال الشخصية(1).
الفرع الثاني: أهميةالتكيف و صعوبته:
أولاً: أهمية التكيف: لا
تبدو أهمية مشكلة التكييف
QUALIFICATION
في القانون الدولي الخاص
فقط ولكنها تفرض نفسها على القاضيفي
مختلف فروع القانون الأخرى.
........................
(1) – د/ علي سليمان علي، مذكرات في القانون الدولي الخاص
ديوان المطبوعات الطبعة الرابعة – ساحة المركزية بن عكنون . الجزائر سنة 2006 ، ص 39.
فمشكلة التكييف تواجهالقاضي الجنائي وهو بصدد وصف الفعل الذي ارتكبه
المتهم لمعرفة ما إذا كان يعد منقبيل
السرقة أو النصب أو خيانة الأمانة.......الخ. وهى تواجه القاضي المدني أيضاعندما يتصدى لتحديد الوصف الذي يلحقه القانون
بالرابطة العقدية المطروحة أمامهلينهى
إلى كون العقد محل النزاع هو عقد إيجار أو عقد بيع أوهبة......الخ.
وإذا كانت عملية التكييف
تتسم بأهميتها في نطاق القانونالداخلي
فان أهميتها هذه تزداد بصفة خاصة في مجال القانون الدولي الخاص. وتتأتى
هذهالأهمية في أن المشرع بصدد تنظيم
الحياة الخاصة الدولية عن طريق منهج الإسناد لايقوم بوضع قاعدة إسناد خاصة لكل مسألة أو لكل علاقة قانونية على
حدى، إذ أنه يستحيلعليه عمل حصر هذه
المسائل أو العلاقات مقدماً (1). لذلك يقتصر المشرع على ضم كلمجموعة من المسائل أو العلاقات التي تتشابه في
أوصافها ضمن طائفة قانونية يخصهابقاعدة
إسناد معينة.
ثانياً: صعوبة التي تواجه
عند التكيف: أن صعوبة التكييفتتعاظم
في القانون الدولي الخاص عنها في أي فرع من فروع القانون الأخرى، وتنجم هذهالصعوبات اختلاف النظم القانونية فيما بينها في
تحديد الأوصاف القانونية للمسائل،والى
اختلافها في تحديد الطوائف التي يمكن رد هذه المسائل إليها، فما يُعد وفقلقانون دولة ما من آثار الزواج الشخصية قد يعد وفق
لقانون دولة أخرى من الأهلية،وما قد
يعتبر في دولة ما من الشروط الموضوعية للزواج قد يعد في دولة أخرى من
الشروطالشكلية للزواج.
ويترتب على اختلاف النظم
القانونية في تحديد الوصف القانونيلنفس
المسألة أن تكتب مشكلة تنازع القوانين التي قد تثور بصدد هذه المسألة بعداإضافيا أو صعوبة إضافية، ذلك إن النزاع ذو الطابع
الدولي الذي يثور بصدد هذهالمسألة لا
يثير تنازعا بين قوانين الدول حول القانون الذي يتعين أن تخضع له هذهالمسألة بل أنه يثير أيضا تنازعا بين هذه القوانين
حول القانون الذي يتعين أن يتحددبمقتضاه
الوصف القانوني لها، والذي يتم عن طريق رد المسألة إلى طائفة قانونية
معينةخصها المشرع بقاعدة إسناد.
المطلب الثاني: أصل
التكيف:
وقد يترتبعلى حسم النزاع الأخير لمصلحة هذا القانون أو ذلك
لاختلاف قواعد الإسناد المطبقة فيفض
هذا النزاع،تكون مختلف وذلك إستناد على هذه القواعد التي تكونمختلفة.
وبالتالي اختلاف الحل
النهائي للنزاع، ومن شأن الأمثلةالواقعية
الآتية والمستمدة من القضاء الفرنسي إيضاح ذلك:
أولاً: قضية وصيةالهولندي: وتتلخص وقائع هذه القضية في أن هولنديا
حرر في فرنسا وصية في الشكلالعرفي ـ
أي بخطه وتوقيعه ـ بالرغم من المادة 992 من القانون المدني الهولندي تمنعالهولنديين من تحرير الإيصال في الشكل العرفي حتى
ولو كانوا في الخارج، وتلزمهمبإفراغ
وصاياهم في الصورة الرسمية، وتختلف هذه القاعدة الموضوعية للقانون الهولنديعن القاعدة التي يتضمنها القانون الفرنسي في هذا
الصدد، والتي تجيز الوصايا المحررةبخط
اليد.
عقب وفاه الموصى أثير
النزاع إمام المحاكم الفرنسية حول صحةالوصية،
والصعوبة في هذه القضية يثيرها اختلاف تكييف كل من القانون الهولنديوالقانون الفرنسي لمسألة حظر تحرير الإيصال في
الشكل العرفي، فوفقاً للقانونالهولندي
يعد منع الموطنين من إبرام وصاياهم في الشكل العرفي- الأمر يتعلقبأهليتهم- آية ذلك أنه يسرى في مواجهتهم حتى ولو
كانوا خارج هولندا، فهو منع يقصدبه
حماية إرادة الموصى ولتأكد من عدم تسرعه عند إبرام الوصية.
أما القانونالفرنسي فهو يعتبر هذا المنع مسألة تتعلق بإشكال
التصرفات على أساس أنه لامس بجوهرإرادة
الموصى، وإنما هو أمر يتعلق أساساً بالوسيلة التي يجب إتباعها لإظهار
الإرادةإلى العالم الخارجي، يترتب على
ذلك أنه لو تم تكييف المنع وفقا للقانون الهولنديعلى أنه قيد على أهلية الموصى في إبرام وصيته لأدى ذلك إلى
بطلان الوصية، إذ أنقواعد الإسناد
الفرنسية تخضع الأهلية لقانون الجنسية. ولما كان الموصى هولنديالجنسية فإن القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة
هو القانون الهولندي الذي يقضىببطلان
الوصية، أما لو تم تكييف الحظر على أنه من مسائل إشكال التصرفات
ـوهذا ما فعلته المحكمة الفرنسية بطريقة ضمنيةـ
لترتب على ذلك صحة الوصية، ذلك أنقاعدة
الإسناد الفرنسية تخضع شكل الوصية لقانون محل إبرامها، وهو في هذه القضيةالقانون الفرنسي الذي يقرر صحة الوصية في الشكل
العرفي (1).
ثانياً: التفرقالجثماني: رفعت دعوى أمام المحاكم الفرنسية بطلب
التفرق الجثماني لزوجين إسبانيين،فقال
الدفاع أن المحاكم الفرنسية غير مختصة بالنظر في هذا الطلب لتعلق التفرقالجثماني بالحالة الشخص، و هذه الأخيرة أي حالة
الشخص تخضع لقانون جنسيته، وذلكطبقاً
للقانون الفرنسي
..............................
........
(1)_.د/ أعراببلقاسم:
ق.د.خ الجزائري الجزء الأول "تنازع القوانين" طبعة 2005، دار هومة للطباعةو النشر و التوجيه. ص 55.
أو الإسباني، ولما كان
القانون الإسباني يجعل مثلهذا الطلب
من اختصاص المحكمة الكنيسة، و يعتبر التفرق الجثماني مسألة موضوعية مثلهامثل الزواج أو الطلاق، فيجب رفع هذا الطلب إلى
المحاكم الكنيسة في إسبانيا، و لكنمحكمة
استئناف بباريس قضت في 09 يناير 1934 بأن القانون الفرنسي يكيف إجراءاتالتفرق الجثماني بإعتبارها تدخل في نظام
المرافعات، وتكون بالتالي مسألة مستقلةتماماً
عن الموضوع، أي تخضع للقانون الفرنسي.
ثالثاً: بطلان زواجاليونانيين: رفعت دعوى أمام المحاكم الفرنسية بطلب
بطلان زواج أحد اليونانيين لأنتم قي
شكل مدني، في حين أن القانون اليوناني - هو قانون جنسيته- يعتر إشهار
الزواجفي شكل ديني مسألة موضوعية و
يدخلها في نظام الأحوال الشخصية، و لكون محكمة النقضالفرنسية قضت في 22 جوان 1955 بأن القانون الفرنسي
هو القانون المختص بالتكيف، الذييعتبر
مسألة إشهار الزواج في شكل ديني هي مسألة شكلية- لا موضوعية- و بالتالي
تخضعلقانون المكان الذي تم فيه إبرام
عقد الزواج.
رابعاً: قضية الزوج
المحتاج: تتلخص وقائع هده القضية في أن زوجيين من أصل مالطي حيث تزوجا
بمالطا و أقاما بهامدة من الزمن، و
بعد زواجهما انتقلا لإقامة في الجزائر، حيث اكتسب الزوج عقارات ثمتوفي الزوج بالجزائر. فتقدمت أرملته أما القضاء
الفرنسي في الجزائر أبدانالإستعمار.
وطلبت منه تمتعها بما سبب بحصة الزوج المحتاج و هو نظام معروف فيالقانون الأنجومالطي – و قانون ممزوج بين القانون
الانجليزي و الأعراف الموجودةبمالطا-
لتطبيقه و هو نظام مجهول في القانون الفرنسي.
و هنا وجد القاضيالفرنسي نفسه مضطراً إلى إعطاء وصف للنظام
القانوني المعرض أمامه أي تحديد ما إذاكان
هدا الطلب يندرج صمن النظام المالي للزوجيين أم أنه يُعتبر من قبيل
الميراث.
فالأنظمة المالية للزوجين
إما يكون هذا النظام إتفاقياً أي مصدره إنفاقالزوجين، و ذلك وقت إبرام عقد الزواج أو في وقت لاحق، و من هنا فإن
الأمر يتعلقبالعقد، من ثم فإنه يخضع
لنفس قاعدة الإسناد التي تحكم العقد، و قاعدة Locus بالنسبة للشكل، و قانون
الإرادة بالنسبة للموضوع
(القانون الذييتفق
الطرفانعلى تطبيقه)، و فيما يتعلق
بالنظام المالي القانوني فإنه يلجأ إليه في حالة عدموجود نظام مالي إنفاقي و المعمول به هنا لدى القضاء
الفرنسي، هو إخضاعه لقانون أولموطن
مشترك للزوجيين بعد الزواج.
مما يتعلق بالميراث فإن
القضاء الفرنسييميز بين الميراث في
العقار و المنقول، فيخضع النوع الأول إلى لقانون موقع العقار ويخضع النون الثاني إلى لقانون آخر و هو قانون موطن
المتوفى، و إذا رجعنا إلى قضيةالحال،
فإننا سنلاحظ ما يلي:
· إذا اعتبرنا طلب الأرملة من قبيل الميراثفسنخضعه للقانون الفرنسي – تركة عقارية – و هن فإن
القضاء الفرنسي لن يستجيب لطلبالأرملة.
· أما إذا اعتبرنا الطلب من قبيل النظام المالي
للزوجين فإنناسنخضعه لقانون أول موطن
المشترك للزوجين بعد الزواج لأنهما لم يتفقا على نظام ماليمعين، أي سنخضع طلب الأرملة للقانون الأنجلومالطي و
بالتالي سيستجيب القضاءلطلبها(1).
من هذه القضايا يتضح لنا
أن نفس المسألة قد يختلف وصفهاالقانوني
أو تكييفها من دولة لأخرى، وأن هذا الاختلاف في التكييف ينجم عنه اختلافقاعدة الإسناد التي تنطبق وهذا يؤدى إلى اختلال في
الأحكام، إذا كانت القوانينتختلف
فيما بينها بشأن تحديد الوصف القانوني للمسألة والعلاقة محل النزاع، كان منالطبيعي أن نتساءل عن القانون الذي يرتبط بتلك
المسألة أو العلاقة والذي يحكمالتكييف.
المبحث الثاني :
الاتجاهات المختلفة بشأن القانون الذي يحكمالتكييف و موقف المشرع منها:
بما أن التكيف أمر أساسي و
أولي لحل تنازعالقوانين من أجل تحديد
قاعدة الإسناد
و بالتالي القانون الواجب
التطبيقيعتمد على تعيين طبيعة
العلاقة و إدخالها ضمن صنف قانوني معين، أُقتُرحت لهذا الغرضإتجاهات مختلفة، كل منها يسند التكيف لقانون معين و
هي كالتالي:
المطلبالأول: الاتجاهات المختلفة بشأن القانون الذي يحكم
التكييف:
ذهب فريق منالفقه إلى إخضاع التكييف لقانون القاضي، في حين ذهب
فريق ثان إلى إخضاعه للقانونالمختص
بحكم النزاع، و نادى فريق أخير بإخضاع التكييف للقانونالمقارن.
الاتجاه الأول: خضوع
التكييف لقانون القاضي:
وقد كان الفقيهكاهن بارتان هو أول من وضع نظرية متكاملة لمشكلة
التكييف تقوم على إخضاع التكييفلقانون
القاضي، وقد استند بارتان إلى دراسته للقضاء، للقول بأن تحديد الوصفالقانوني للمنازعات ذات الطابع الدولي يجب أن يتم
وفقا لقانون القاضي حتى و لو لميكن هو
الواجب
.......................
(1) - أ/ حبار، محاضرات فيالمقياس القانون الدولي الخاص ، السنة الرابعة – كلية الحقوق سنة
الجامعية 2007 – 2008
التطبيق على النزاع أو
حتى لم يكن الصلة به، ويبرر بارتانإخضاع
التكييف لقانون القاضي بحجة مستمدة من فكره السيادة ـ بحسب أن المشرع
الوطنييتنازل عن قدر من سيادته عند
سماحة بتطبيق القانون الأجنبي، الأمر الذي يحتم الرجوعإلى نفس المشرع الوطني لبيان مدى هذا التنازل
وحدوده، وعلى ذلك فإذا كان المشرعالفرنسي
قد سمح مثلا بإخضاع أهلية الأشخاص لقانون جنسيتهم فان المنطق بالرجوعللقانون الفرنسي لتعريف المقصود بالأهلية، ذلك أن
قيام قانون أخر بهذا التحديد يعنىإن
هذا القانون هو الذي تمارس فيه السيادة التشريعية للدولةالفرنسية.
وبعبارة أخرى يمكن القول
بان التزام القاضي بتطبيق قواعد الإسنادالتي يأمره بها مشرعه الوطني سيتتبع التزامه في الوقت ذاته بتطبيق
قواعد التكييفالتي يأمره بها نفس
المشرع لأن هذه القواعد هي التي تحدد الإطار الفعلي لتطبيقالقوانين الأجنبية، أي الإطار الفعلي لسيادة الدولة
التشريعية.
ويؤيد الفقهالغالب ما ذهب إليه بارتان من إخضاع التكييف لقانون
القاضي LEX FORI ولكن على أساسمختلف
عن الأساس الذي شيد عليه بارتان و نظريته وهو فكرة السيادة فقواعد الإسناد
لايناط بها حسم تنازع بين السيادات
وإنما تهدف إلى التوصل لأكثر الحلول مناسبةللعلاقات ذات الطابع الدولي تحقيقا للتعايش المشترك بين النظمالقانونية.
لذلك يستند هذا الفقه
لحجج أخرى للقول بخضوع التكييف لقانونالقاضي
وفيما يلي أهم هذه الحجج.
v إن التكييف لا يعدو في حقيقته أن يكونتفسيرا لقاعدة الإسناد الوطنية، الأمر الذي يقتضى
أن يخضع بالضرورة لقانون القاضيفإذا
ما قضت قاعدة الإسناد الوطنية مثلا بإخضاع الأهلية لقانون الجنسية فإنه يجبلإمكان تطبيق القاضي لهذه القاعدة تحديد معنى
الأهلية ومعرفة ما إذا كان هذا المعنىينطبق
على المسألة المثارة أمام القاضي، ومن ثم فلا غرابة في أن يتم تفسير قاعدةالإسناد الوطنية وفقاً لإحكام القانون الوطني.
v أن القاضي حينما يقومبتكييف المسألة أو العلاقة المعروضة أمامه فهو يتأثر حتماً بحكم
تكوينه الثقافيوالقانوني و بالمبادئ
الواردة في قانونه، وهذا ما يفسر اتجاه القضاء في غالبيةالدول إلى إخضاع التكييف لقانون القاضي قبل إن يطرح
بارتان نظريته فيالتكييف.
v ويستند الفقه الحديث أخيرا إلى حجة ذات طابع عملي
للقول بإخضاعالتكييف لقانون القاضي
مفادها إن هذا القانون هو القانون الوحيد الذي يتصور إن يتمالتكييف وفقاً له، ولا يتصور إن يتم ذلك وفقا
لقانون أخر كالقانون المختص بحكمالعلاقة،
إذ إن تحديد هذا القانون لن يتسنى قبل تعيين قاعدة الإسناد المطبقة وهوالأمر الذي يستدعى تحديد الوصف القانوني للمسألة
أو العلاقة المطروحة أمام القاضيأو
بعبارة أخرى تكييف هذه المسألة أو العلاقة الأجنبية.
والتكييف التي يجبإجراؤها عقب ذلك لا يؤدى إلى تعديل هذا الاختصاص،
وإنما تعمل فقط على بيان كيفيةتطبيق
القانون الأجنبي بالنسبة للمسألة التي ثبت له الاختصاص فعلابحكمها.
ويتلقى الفقه الذي يقرر
خضوع التكييف الأولي لقانون القاضي بحسبانإن الأمر يتعلق بتفسير قاعدة إسناده نفس النتيجة التي انتهى إليها
بارتان، إذ أنالتكييف الأولى أو
الاختصاص وحده هو الذي يتعلق بتفسير قاعدة الإسناد.
أماالتكييف اللاحقة أي الثانوي فهي لا ستثار إلا بعد
تحديد القانون الواجب التطبيقوبصدد
هذا التطبيق، ومن ثم فهي تخضع لهذا القانون بوصفها تفسيرا لإحكامه. ونرى فيهذا الصدد أن قصر مجال إعمال قانون القاضي على
التكييف الأولى أو الاختصاص يرتكزلنفس
السبب الذي حدد بالقضاء إلى الاستعانة بقانون القاضي لتحديد طبيعة المسألة
محلالنزاع قبل طرح بارتان لنظريته
فقد أدرج القضاء على الرجوع لقانونه الوطني بحسبانأنه المنهج الوحيد لتحديد قاعدة الإسناد.
وبالتالي لمعرفة القانون
الذيينعقد له الاختصاص، وعلى ذلك
فمجرد معرفة هذا القانون تزول الحاجة إلى الاستعانةبقانون القاضي، وينبغي الأخذ بما يقرره القانون
المختص بحكم النزاع في حسم مختلفالمسائل
التي قد تعرض عند تطبيق هذا القانون بما في ذلك التكييف اللاحقة أوالثانوية، فكل هذه المسائل تعد جزءا لا يتجزأ من
الحكم الموضوعي الذي يتضمنهالقانون
الواجب التطبيق.
وقد ثار السؤال حول ما
إذا كان تكييف المال يدخلضمن مجال
إعمال قاعدة خضوع التكييف لقانون القاضي.
ذهب بارتان إلى إخضاعتكييف المال ـ أي تحديد طبيعته من حيث كونه منقولا
أو عقار- لقانون موقع المال وليسلقانون
القاضي. ويستند هذا الاستثناء إلى أن ارتباط الأموال بإقليم الدولة يقتضىتكييف المال وفقاً لقانون موقعه حفاظاً على
استقرار المعاملات وسلامتها.
غيرأن الفقه الغالب لا يؤيد بارتان في هذا الاستثناء
ذلك أن سلامة المعاملاتواستقرارها لا
يستلزم حتما الخروج على مبدأ إخضاع التكييف لقانون القاضي، كما أنتحديد طبيعة المال ومعرفة ما إذا كان عقارا أو
منقولا قد يكون لازما في بعض الأحواللتحديد
قاعدة الإسناد الواجبة التطبيق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاستعانة بقانونالقاضي.
من أمثلة ذلك ما نص عليه
القانون الفرنسي من خضوع الميراث في العقارلقانون موقعه وخضوع الميراث في المنقول لقانون موطن المتوفى، ويترتب
على اختلافقواعد الإسناد المتعلقة
بالميراث بحسب ما إذا كان هذا الميراث قد اِشتمل على عقارأو منقول، أن يقوم القاضي أولاً بتحديد طبيعة
المال، وهذا ما لا يمكن للقاضي القيامبه
دون الاستعانة بقانونه، فإذا حدد القاضي طبيعة المال وفقاً لقانونه أمكنه
حينئذفقط التوصل إلى قاعدة الإسناد
الواجبة التطبيق على النزاع.
يضاف إلى ذلك أنالمال محل النزاع قد يوجد في إقليم أكثر من دولة
ومن ثم فقد تختلف طبيعته من دولةإلى
أخرى، وبالتالي قد تتعدد قواعد الإسناد وتتضارب بشأن نفس النزاع، كذلك قد
يكونالمال محل النزاع مالاً معنوياً
يتحدد موقعه في كل دولة وفقا للمبادئ القانونيةالسائدة فيها، فكيف السبيل حينئذ إلى تحديد موقع المال مال يكن
هذا التحديد مرتبطاًبقانون دولة معينة
بالذات.
ونرى مع جمهور الفقهاء
المصريين عدم استثناءتكييف المال من
الخضوع لقانون القاضي، ذلك أن قاعدة الإسناد قد تخضع المال سواء كانمنقولاً أو عقاراً لقانون موقعه، وفى هذه الحالة
لن يترتب على اختلاف القانون الذييخضع
له التكييف أي سواء كان قانون القاضي أو قانون موقع المال التأثير في
القانونالواجب التطبيق، مما ينفى أي
حاجة عملية إلى الخروج على مبدأ خضوع التكييف لقانونالقاضي.
يتبع