المبحـث
الثــالث :السياسات المتبعة في الفكر المركانتيلي.
إن
الغاية وراء سياسة التقييد الشديد للتجارة الخارجية كانت تتمثل أساسا في
تحقيق المصلحة الاقتصادية القومية,وهو تكوين الفائض من المعادن النفيسة.و
لذلك أصبح تدخل الدولة امرا حتميا حتى يتم محاربة الواردات وتقييدها من جهة
والعمل على إنعاش الصادرات و تحقيق اكبر مكسب ممكن منها من جهة اخرى . هذه
السياسة كانت ترتكز أساسا على عدة سياسات إنتهجها المركانتيليون لتحقيق
اهدافهم ومن اهم هذه السياسات :
المطلب
الأول: سياسة إحتكار الدولة للتجارة الخارجية.
من
اهم الأساليب الرئيسية التي إبتدعها المركانتيليون للتحكم في التجارة
الخارجيةتنظيم إحتكار الدولة لها(state monopoly of trade) فقد قامت الدولة
بمنع الأجانب من التجارة في سلع معينة او في مناطق معينة كما قامت بتنظيم و
إدارة الصادرات الوطنية بطرق مباشرة . فلقد حرمت البرتغال مثلا على أي
دولة أجنبية أن تتاجر مع مستعمراتها في الشرق و استخدمت في ذلك أسطولها
البحري .كما قامت الدولة الأسبانية بحراسة تجارتها الخارجية دائما بقوة
بحرية و حددت ميناء إشبيلية و عدد محدود من موانئ مستعمراتها الأمريكية
للشحن البحري كل ذلك لتتاكد من وقوع التجارة الدولية بيدها.واحتكرت الدولة
الهولندية تجارة مستعمراتها في الهند الشرقية بالكامل و ابتدعت وسائل عدة
لتنفيذ هذه السياسة من اهمها الرقابة المباشرة و تحديد الكميات المنتجة من
السلع الهامة داخل مستعمراتها . وسنت بريطانيا قانون القمح لتحرم به
إستيراد اية انواع من الغلال إلا في حالات الشح الشديد في المحاصيل الوطنية
كما سنت أيضا قوانين الملاحة البحرية لتمنع بها أية سفن أجنبية من
المتاجرة في الموانئ البريطانية او فيم بينها وبين موانئ مستعمرات التاج
كما ربطت فيما بينها و بين مستعمراتها بروابط جمركيةبشكل يجعل من المستحيل
أن تذهب تجارة المستعمرات الهامة إلى الدول المنافسة .وبالإضافة إلى هدا
أصدرت بريطانيا قوائم ببعض السلع الهامة التي يحرم تصديرها من مستعمراتها و
هنا نلاحظ مدى أهمية الدور الذي لعبته الملاحة في تمكين الدولة من إحتكار
التجارة الخارجية و تنظيمها ولقد كان هذا من أحد الأسباب المباشرة وراء
صدور قوانين الملاحة في بريطانيا وغيرها من الدول المركانتيلية.
المطلب
الثاني: سياسة الاستيراد
من
الممكن تلخيص سياسة الاستيراد المركانتيلية في مبدا هام ألا وهومحاربة
السلع والخدمات الاجنبيةلأنها تتسبب في تسرب المعدن النفيس خارج الدولة اما
الأسلوب الذي إتبع لتنفيذ هذه السياسة فقد تمثل في الضرائب الجمركية
المرتفعة و المنع المباشر لبعض السلع من الدخول ااما تجارة الواردات من
المستعمرات فقد كان لها وضع خاص حيث كانت البلدان الاوروبية المركانتيلية
تحصل عليها بأثمان بخسة ثم تعيد تصدير جزء كبير منها في السوق الاوروبي و
من ثم يتحقق لها منها فائض صافي من الذهب
.
إلا
أن قوانين الاستيراد كانت مرنة و لينة إذا ما تعلق الامر بالمواد الخام
التي لا تتوافر عليها الدولة و الضرورية للصناعات التصديرية المهمة كونها
ترفع من قيمة الصادرات و منه فهي تدخل المعادن النفيس و تزيد في ثرؤة البلد.
المطلب
الثالث: سياسة التصدير
اما
بالنسبة لسياسة التصدير فقد شجعت الصادرات من السلع المصنوعة بكافة الوسائل
الممكنة والعمل دائما على إكتساب أسواقخارجية جديدة خاصة البلدان المكتشفة
حديثا و الغنية بالمعادن النفيسة.
وحينما
كانت بعض صناعات الصادرات تعجز عن مواجهة المنافسة الاجنبية في بعض
الاسواق فإن الدولة لا تتوانى عن مساعدتها مباشرة بمعونة مالية.
كما
أن الدول المركانتيلية قد قامت بفرض ضرائب جمركية مرتفعة جدا على بعض
صادرات المواد الخام و السلع نصف المصنعة و التي تلزم للصناعات القومية
الهامة التي يدر تصدير منتجاتها مكاسب كبيرة من المعدن النفيس.و هكذا تمكنت
الدول من حماية صناعاتها القومية الهامة من مواجهة أية مشاكل قد تنشأ في
سبيل الحصول على مستلزمات إنتاجها. وهكذا ساهمت الدول المركانتيلية في
تقوية المركز التنافسي لصناعاتها القومية في الايواق الخارجية ومن ثم
ازدادت قدرتها على اكتساب المعدن النفيس و استطاعت ان توجه كل طاقاتها
الاقتصادية نحو تصدير المنتجات و تحقيق الفائض المنشود في الميزان التجاري و
تعزيز ثروتها من المعادن النفيسة
المطلب
الرابع: سياسة الأجور المنخفضة
لقد
تنبه المركانتيليون إلى أهمية تخفيض نفقة الإنتاج للصادرات من السلع
المصنوعة لهذا دعو إلى سياسة اللأجور المنخفضة لأنها تساهم في بقاء نفقات
الإنتاج منخفضة.ولكن بالإضافة إلى ذلك اعتقدو ان الاجور المنخفضة منشأنها
ان تشجع العمال على بذل جهد اكبر لمضاعفة اجرهم ومن ثم يزداد الإنتاج
المخصص للتصدير.كما انهم إعتقدو أن الاجور المرتفعةتذهب بأكملها لاشباع
الحاجات الإستهلاكية للطبقة العاملة و من ثم فإن إرتفاع الاجور يعني زيادة
الإستهلاك .
المبحث
الرابع : سلبيات المذهب المركانتيلي
سيطر
المذهب التجاري على الممارسات الإقتصادية الأوروبية خلال القرن 16 وكانت
مظاهره تتجلى في كل أوجه الحياة و إنعكساته على الشعوب كانت واضحة حيث أن
مبدأ تحصيل المعادن النفيسة وزيادتها قد أدى إلى أرتفاع الأسعار بطريقة غير
مسبوقة ولم يتوافق ذلك مع مصالح الأفراد الذين أهملهم المذهب وخص عنايته
الكاملة للدولة أو المملكة كما أن مبدأ تخفيض الأجور يعد مبدأ ضالما حيث
يستعبد العمال ولا يأبه لوضعهم الإجتماعي ومن جهة أخرى فإن السياسات
المنتهجة للتجاريين كانت تؤدي إلى عكس النتائج الإقتصادية المنطقية بقولهم
أن زيادة المعدن تزيد الثروة وتزيد الإنتاج ومن ثم فهناك زيادة أكبر في
معدلات التصدير وتحقيق ميزان تجاري موافق إلا أن هذه الزيادة في المعادن في
الحقيقة قد أتت بزيادة في الأسعار وهذا ما يقوض من عملية التصنيع والتصدير
، أما ما يترتب على زيادة عدد السكان من إحتمال الضغط على المواد الغذائية
و إنخفاض مستوى معيشة الفرد فقد كانت بعيدة كل البعد عن أدهان التجاريين
ويمكن تلخيص عيوب المذهب المركانتيلي في ...نقاط:
أ-
إهمال الفرد و إهمال رفاهيته
ب-
تعطيل سير التجارة الدولية بالتخلات الدائمة للدولة
ت-
عدم الإمكان المحافظة على ميزان تجاري موافق دائم
ث-
إستعمال بشع لموارد الشعوب المستعمرة وتقوية النزعة الإستعمارية
ج-
إرتفاع في الأسعار
ح-
إهمال الزراعة والتجارة الداخلية
خ-
التشجيع على زيادة السكان دون مراعاة ما يترتب عن ذلك .
المبحث
الخامس : النقد الموجه للمركانتيلية وبداية زوالها
هاجم
دفيد هيوم السياسة التجارية المركانتيلية على أساس التناقض المنطقي في
أركانها وخلاصة مناقشته هي أن تكوين الفائض في الميزان التجاري والمحافظة
عليه بصفة مستمرة لا يمكن أن يؤدي إلى زيادة القدرة على تنميته بل على
العكس . لابد أن يؤدي إلى تدهوره ، فزيادة كمية المعادن النفيسة داخل
الإقتصاد زيادة كبيرة نتيجة الإصرار على تكوين فائض مستمر في الميزان
التجاري يعمل على رفع مستويات الأسعار في النهاية وفي رأي هيوم . أن هذا في
حد ذاته يضعف من القدرة على التصدير ومن ثم يؤدي إلى تدهور الفائض بدلا من
زيادته
كما
إعتبر آدم سميث أن السياسة التجارية المركانتيلية سياسة ساذجة لا تقوم
بتحليل الأوضاع الإقتصادية تحليلا عميقا وتكتفي بإعطاء القواعد التي كان
بعضها مناف للمنطق ويمكن تصوره كتحليل فلسفي نظري أكثر منه تحليل إقتصادي
مبني على حقائق ومشاهدات واقعية . وقد بين المذهب ذلك في كتابه ثروة الأمم " .
ومن
هنا بدأ المركانتيلي في التراجع والإضمحلال فكريا من جهة أخرى أدت التطورات
التكنولوجية كاكتشاف المحرك البخاري إلى تحول كبار التجار إلى مستثمرين
صناعيين ينبذون تدخل الدولة في شؤون الإقتصاد والتقييد الصارم للصادرات و
الواردات وتحولوا شيئا فشيئا إلى سلطة تضاهي سلطة الملك ومن ثم فقد أخذ
الفكر التجاري في الغضمحلال وكانت أنجليترا بالذات التي تعتبر مهده هي أيضا
لحده ، ذلك أن ظهور فلسفات جديدة على يد هيوم- وجون جاك روسو و مونتسكيو
تنظر نظرة إرتياب إلى تدخل الدولة وترفض فكرة الحق الإلهي للملوك وتكافح من
أجل الحرية الفردية والمساواة قد دق آخر مسمار في نعش المركانتيلية و بعض
الأفكار وطورت إلى مذهب جديد بينما أخذ منها بعض الأفكار وطورت إلى مذهب
جديد سماه أصحابه الطبيعية أو الفيزيوقراطية .