[table width="100%" border="0" cellpadding="0" cellspacing="0"][tr][td colspan="2"]الأدب العربي من
سقوط بغـداد (656هـ) إلى مطالع العصرالحديث[b]
وهو
ما عرف في تاريخ الأدب بعصر الانحطاط، وهي تسمية جائرة. فقد واجهت الأمة
الإسلامية في هذا العصر موجات ثلاثًا من الغزو: موجة الغزو الصليبي، وموجة
الغزو المغولي الأولى بقيادة هولاكو، التي أسقطت بغداد، ثم بدأت تعد العدة
لغزو مصر والشام لولا هزيمتها في عين جالوت، والموجة الثالثة هي موجة الغزو
المغولي الثانية، وقائدها تيمورلنْك من سلالة جنكيزخان، الذي مضى يخرّب
غالب مدن العراق، كما خرّب حلب وأحرق دمشق. وقد كان لهذه الموجات الثلاث
صداها البعيد في الأدب شعره ونثره.
ظل للماليك في مصر دولة حاكمة من سنة
648هـ ، 1250م إلى الفتح العثماني عام 922هـ، 1516م. وكان للماليك جولات
عظيمة في الجهاد، كما لقُطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت، فضلاً عن
بطولات الظاهر بيبرس في حرب الصليبيين، وكذا بطولات خلفائه من بعده، كما
شهد العصر المملوكي ازدهارًا في إنشاء المدارس وتأليف الموسوعات وازدهارًا
في العلوم والفن المعماري، بينما ضعف الأدب شعرًا ونثرًا.
ثم كانت
الخلافة العثمانية منذ عام 922هـ ، 1516م وزوال دولة المماليك بمصر إلى
العصر الحديث، مع نهاية القرن الثاني عشر ومطالع القرن الثالث عشر الهجري،
وانبثاق النهضة الفكرية والأدبية في العالم العربي على تفاوت ـ في ذلك ـ
بين أقطاره المختلفة. أما الأدب خلال تلك الحقبة فكان من أبرز معالمه ظهور
تيارين: الأول، تيار الأدب الديني والثاني، تيار الأدب الشعبي.
أما في
تيار الأدب الديني، فقد ازدهرت المدائح النبوية، موصولةً بجذورها في صدر
الإسلام. ومع تيار المدائح النبوية يظهر أيضًا تيار الشعر الصوفي المتدثر
بالتصوف الفلسفي على طريقة ابن عربي وابن الفارض، وممن يمثل هذا التيار عبد
الغني النابلسي (ت1143هـ).
وفي النثر تطالعنا حكم ابن عطاء الله
السكندري (ت709 هـ) متأثرةً هي الأخرى بالتصوف، كما تطالعنا كتب ابن تيمية
ورسائله، وكتب تلميذه ابن قيم الجوزية، وهي تمثل التيار السَّلفي للأدب
الإسلامي في هذا العصر. وكان من البدهي أن يعكس كل من الأدبين، الصوفي
والسلفي، حركة الصراع بين هذين الاتجاهين.
أما في تيار الأدب الشعبي فقد
انتشرت أشكال شعبية كالزجل الذي اتخذ من الدارجة لغةً له. ويبدو أن انشغال
المشارقة بفن الزجل وتشقيقهم منه أشكالاً متعددة التلاوين، كل ذلك قد لفت
انتباه ابن سعيد المغربي الأندلسي في رحلته إلى المشرق، فراح يسجل ألوانًا
منه في كتابه المُشْرق في حُليِّ أَهْل المَشْرق. وتستوقفنا في هذا العصر
شخصية ابن سودون الذي عدّه الباحثون أهم شخصية شعبية في القرن التاسع
الهجري، وله كتاب بعنوان نزهة النفوس ومضحك العبوس، جعله في خمسة أبواب،
الباب الأول في القصائد والتصاديق، أي المقدمات، وهي قصائد بالفصحى لم
تخْلُ من اللفظ العامي يسوقه للفكاهة، والباب الثاني، في الحكايات البيداء
الملافيق، والثالث في الموشحات الهبالية، كتبها بالعامية، والرابع في الزجل
والمواليا، والخامس في الطُرف العجيبة والتحف الغريبة. واللافت للنظر أن
الشعر الفصيح نفسه عند ابن سودون مثير للضحك بمعانيه وصوره، وببعض ما تخللت
لغته الفصيحة من تعابير عامية.
أما النثر فلعله فاق الشعر أو ساواه في
طابعه الشعبي، فما زالت سيرة عنترة شائعة سيارة بين الطبقات الشعبية في
أسمارهم ومحافلهم.
ومن صور النثر الشعبي في هذه الحقبة كتاب عنوانه: هزّ
القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف لمؤلفه يوسف الشربيني، وهو لون من النثر
الشعبي الساخر يتناول واقع الريف المصري في هذه الحقبة بما تخلله من جهلٍ
وفقر.
وبينما يكون نثر السيرة الشعبية بطوليًا خياليًا،كان هز القحوف
وأمثاله فكاهيًا واقعيًا.
تناولت هذه العجالة أبرز تيارين أدبيين في
الشعر والنثر، ولكن ذلك لا يعني اقتصار الأدب عليهما، فإلى جانب تياري
الشعر الديني والشعبي، عرف الأدب سائر الأغراض التقليدية للشعر، وبخاصة شعر
الحماسة، الذي عبّر عن وجدان الإنسان العربي ومشاعره تجاه الأحداث الجسام
ممثلة في تيارات الحروب الصليبية والغزو المغولي. ولكن الشعر العربي لم
يستطع، لضعفه، أن ينهض بعبء التعبير عن هذه الأحداث، كما أن النثر التقليدي
ظل موجودًا إلى جانب النثر الشعبي، إذ ظلت الخطابة والمقامة والرسالة
قائمة في هذا العصر في لغة مسجوعة مصنوعة.
ولكن ينبغي أن نشير هنا ـ
ونحن بصدد الحديث عن النثر، إلى حقيقتين مهمتين: الأولى: ازدهار فَنَّيْ
السيرة الذاتية والرحلة
والثانية: أن كتب التاريخ والجغرافيا لم تخْل
مواضع منها من النثر الإبداعي الوصفي الذي ينبض بالتجربة وقوة التأثير
وجمال الصياغة، مما يدخلها في صميم النثر الإبداعي. وتُعدّ هذه المواضع مع
ما ذكرناه من كتب السيرة الذاتية والرحلة، نقاط ضوءٍ ساطع في نثر هذا العصر
الذي خَيَّمت عليه الصنعة والضعف.
الأدب في الأندلس
فتح
المسلمون الأندلس عام 92 للهجرة، وظلت تحت راية الإسلام أكثر من ثمانية
قرون حتى عام 898هـ، تاريخ خروج المسلمين منها. وتُعدُّ الأندلس جسرًا
ثقافيًا بين الشرق والغرب، فعن طريقها تنسَّم الغرب النصراني نفحات الحضارة
العربية الإسلامية. وهي حضارة حلقت بجناحين: جناح العقيدة وهي الدين
الإسلامي، وجناح اللغة العربية. ومن ثَمَّ كان الأدب في الأندلس عربيًا في
لغته وبلاغته وأساليبه. وقد امتزج كل ذلك بكثير من طبيعة البيئة الأندلسية
التي نشأ في أحضانها.
الحياة السياسية، وآثارها الفكرية والأدبية
عرفت الأندلس ستة عصور سياسية هي:
عصر الولاة
(95-138هـ). حكم الأندلس خلال هذه الفترة ثمانية عشر واليًا؛ يعيَّنهم تارة
الخلفاء الأمويون في دمشق وأخرى عُمالهم في إفريقيا، وأول هؤلاء الولاة،
عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر وآخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِي.
امتاز
هذا العصر بالصراع القبلي بين العرب والبربر الذين كانوا يفخرون بأنفسهم،
لأن فتح الأندلس تم على يد رجل منهم هو طارق بن زياد، ولذلك كانت ثورات
البربر لا تهدأ في الأندلس خلال هذه الفترة. ثم ظهر نزاع قبلي آخر بين من
عرفوا بالبلديين والشاميين؛ فالبلديون هم عرب الأندلس في حركة الفتح الأولى
والشاميون هم الأفواج اللاحقة، وقد دار صراع بين الفريقين. وكذلك كان ثمة
صراع قبلي ثالث بين المُضريَّة واليمنية ترك بصماته على هذه الفترة.
لم
يكن هذا العصر مهيئًا لنهضة أدبية أو علمية بسبب عدم الاستقرار السياسي
الذي كان يمور فيه، ومن ثم لا نجد خطوطًا أدبية مميزة لهذه الفترة.
الدولة
الأموية. ينقسم هذا العصر إلى قسمين: الأول إمارة قرطبة (138 - 300هـ)،
وتأسست على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان الذي عرف
بعبد الرحمن الداخل. وقد استطاع الداخل بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق
وقضاء العباسيين على كثير من الأمويين أن ينجو بنفسه ويخوض مغامرات كثيرة
جعلت منه صقر قريش الذي أسس مجدًا للأمويين في الأندلس، حيث تناوب على حكم
إمارة قرطبة من بعده ستة من أبنائه وأحفاده.
وفي هذا العصر نمت قوة
المسلمين بالأندلس وانعكس أثرها في سياستهم الخارجية، على حين أن النشاط
الداخلي شهد حركة من البناء والعمران جعل من قرطبة العاصمة درة بين العواصم
المشرقية والغربية. كما كان الأمير الحكم بن هشام مؤثرًا للعلماء
والفقهاء، وإن كان عبد الرحمن الأوسط هو أشهر أمراء قرطبة في رعاية العلوم
والآداب والفنون.
نهضت الحركة الأدبية في هذا العصر، إذ كان حكامه بحكم
طبيعتهم العربية يعنون بالشعر والنثر وفصيح القول؛ فجعلوا بلاطهم عامرًا
بأهل العلم والأدب. كما كان عبد الرحمن الداخل نفسه شاعرًا وأديـبًا. ومن
أشهر مقطوعاته الشعرية وصفه للنخلة التي أهاجت شجنه وذكرته بوطنه حين يقول:
تَبَدَّتْ
لنا وسط الرَّصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن وطن النخل
فقلت شبيهي
في التغرُّبِ والنَّوى وطول التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نَشَأْتِ
بأرض أنت فيها غريبةٌ فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وكذلك كان
الحكم بن هشام بليغًا فصيحًا شاعرًا مجيدًا، ومن شعره يفخر بإقرار الأمن في
البلاد:
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعًا وقِدمًا لأمت الشَّعب مُذْ
كنتُ يافعًا
فسائل ثغوري هل بها الآن ثغرةٌ أبادرها مُسْتَنْضِيَ
السيف دارعًا
تُـنَـبِّيك أني لم أكن عن قِرَاعِهم بِوَانٍ وأني كنت
بالسيف قارعًا
ومن قوله يتغزل:
ظل من فرطِ حبه مملوكا ولقد كان
قبل ذاك مليكا
إن بكى أو شكا زِيْدَ ظُلْماً وبعادًا يدني حِماماً
وشيكا
تركته جآذرُ القصر صَبا مستهاماً على الصعيد تريكا
ولا
نستثني من زمرة الأمراء الشعراء عبد الرحمن الأوسط في مثل قوله:
إذا ما
بدت ليَ شمس النهار طالعة ذكرتني طروبا
أنا ابن الميامين من غالب
أشُبُّ حروبًا وأطفي حروبا
وكذلك آخر أمراء قرطبة عبد الله بن محمد
بن عبد الرحمن وكان شاعرًا مطبوعًا ومن رقيق غزله قوله:
يامهجة المشتاق
ما أَوْجَعَك ويا أسير الحب ما أخْضَعَكْ
ويارسول العين من لحظها
بالرد والتبليغ ما أَسْرَعَكْ
ومن شعراء الإمارة من غير الأمراء عاصم
بن زيد العبادي، الذي جعل من محنة العمى موضوعًا لشعره، ومن أجمل تصويره
لمحنته قوله:
ورأت أعمى ضريرًا إنما مَشْيُهُ في الأرض لمسٌ بالعصا
فبكت
وجدًا وقالت قولة وهي حَرَّى بلغت منّي المدى
ففؤادي قرِح من قولها
مامن الأدواء داء كالعمى
أما الشاعرات فتعد حَسانة التميمة سيدة
شواعر عصرها غير منازعة، ومن جميل قولها مدحها للحكم بن هشام:
أنت
الإمام الذي انقاد الأنام له وملَّكَتْهُ مقاليد النُّهى الأمم
لا
شيء أخشى إذا ماكنت لي كنفًا آوي إليه ولايعرونِيَ العدم
وقد كان
الشعر في هذه الفترة يسير على الاتجاه المحافظ في المدرسة المشرقية ويتبع
منهج القدماء في بناء القصيدة واستيحاء صورها من عالم البادية وترسم
موضوعات الشعر التقليدي في مدحه وفخره وهجائه، كل ذلك في عبارات فخمة
وألفاظ جزلة وبحور طويلة وقوافٍ رنَّانة.
وعلى كلٍ فقد نهض الأدب في هذا
العصر نهضة واسعة بسبب عناية الحكام بالأدباء والعلماء وتيسير سبل حياتهم.
أما
القسم الثاني فهو عهد خلافة قرطبة (300 - 422هـ). حيث تحولت إمارة قرطبة
إلى خلافة عظيمة على يد عبد الرحمن الثالث، وهو عبدالرحمن بن محمد بن
عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن الأوسط، وعرف بعبدالرحمن الناصر. وهو أول من
تسمى من أمراء الأمويين في الأندلس بأمير المؤمنين وأعلن نفسه خليفة
بالأندلس وتلقب بالناصر لدين الله.
لم تشهد الأندلس عصرًا بلغ ذروة
ازدهاره في مختلف مجالات الحياة، مابلغته الأندلس في هذا العصر. فقد نهضت
الآداب والعلوم والفنون نهضة واسعة. وكان عبد الرحمن الناصر كثير العناية
بالشعراء والكتاب، وأصبح بلاطه قبلة لأهل العلم والأدب
ويُعد ابن عبدربه
الأندلسي صاحب العقد الفريد وأحمد بن عبدالملك بن شهيد صاحب التوابع
والزوابع وعبد الملك بن جَهْوَر من أشهر شعراء هذا العصر.
انتقلت
الخلافة بعد عبد الرحمن الناصر إلى ابنه الحكم وكان أمره كأبيه، فواصلت
الأندلس مسيرتها العطرة في مختلف المجالات. وكان الحكم قد عهد في حياته
بأمر الإشراف على ابنه هشام إلى محمد بن أبي عامر الذي استولى بعد موت
الحَكَم على الحُكْم، حين حجب هشامًا الحَاكِم الشرعي وأصبح هو الحاكم
الفعلي للأندلس ولقب نفسه بالحاجب المنصور.
وفي عصر المنصور اتصلت نهضة
الأندلس السياسية، وإن فقدت شيئًا من رحابة الصدر التي كانت للخلفاء
السابقين. وكان الحاجب المنصور أديبًا شاعرًا محبًا للعلوم مؤثرًا للأدب،
فنهض الأدب في جوانبه المختلفة، وكان من أشهر شعراء العصر الرَّمادي وابن
درّاج القسطلي وابن هانئ وغيرهم.
وبموت المنصور بن أبي عامر (392هـ)
دخلت الأندلس في الفتن والصراعات التي أدت إلى انقطاع الدولة الأموية
وموتها بانتثار عقد الخلافة، وكان ذلك بداية النهاية في الأندلس
عصر
ملوك الطوائف (400 - 536هـ). تقسَّمت الأندلس عقب سقوط الخلافة الأموية إلى
عدد من الدويلات والطوائف، وكان كل من يأنس في نفسه القدرة من رؤساء
الطوائف عربًا أو موالي يستقل بالإمارة التي يحكمها ويتخذ من أهم مدينة
فيها عاصمة له. ومن أهم هذه الدويلات: أ- الدولة الزيرية. ب- الدولة
الحمودية. جـ- الدولة الهودية. د- الدولة العامرية. هـ- الدولة العبادية.
و- دولة بني الأفطس. ز- الدولة الجهورية. ح- دولة ذي النون.
وقد نشأت
بين حكام هذه الممالك وملوكها حروب متصلة، بلغ الأمر فيها استعانة بعضهم
بملوك الفرنجة. كما تجاوز التنافس السياسي بينهم إلى التنافس في مجالات
العمران والأدب والفن ومجالس الطرب والغناء وتشجيع الكتاب والشعراء.
وبالرغم من ذلك شُغِل فريق بالبهرج والترف والتهافت على الصغائر والتلقب
بنعوت الخلفاء، مما جعل سخرية الشاعر ابن عمار صادقة في حقهم حين يقول:
مما
يُزَهِّدني في أرض أندلس أسماءُ معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في
غير موضعها كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد
وعلى كل حال حظيت
الحركة الأدبية برعاية فائقة على يد عدد من هؤلاء الحكام الذين كانوا
أنفسهم شعراء وأدباء، كالمعتمد بن عَبَّاد في أشبيليا والمظفر وابنه
المتوكّل في بَطْلَيَوْس. كما أصبحت مراكز الأدب وإشعاعاته ليست في قرطبة
وحدها كما كان الحال في عصر الدولة الأموية، ولكن تعددت مراكز الثقافة
بتعدد العواصم، وقد أخذ العلماء والأدباء والشعراء يقصدون كل بلاط رغبة في
نيل الحظوة وتكريم الحكّام لهم. ومن ثم فليس عدلاً أن نحكم على عصر الطوائف
حكمًا أدبيًا من منظور فرقته وضعفه السياسيين، فالعصر وإن تردَّى سياسيًا،
فقد نهض نهضة أدبية واسعة.
دولة المرابطين (495 - 555هـ). نشأت دولة
المرابطين في المغرب على يد أحد زعماء قبائل صنهاجة، وكان أساسها دينيًا.
وبعد موت مؤسسها آل أمرها إلى أسرة بني تاشفين، وكان يوسف بن تاشفين هو
المقدم في هذه الدولة التي أقامها على قاعدة من الجهاد الديني العريض.
وفي
هذه الفترة جمع الأسبان قوتهم تحت راية الصليب، وهاجموا الدويلات
الأندلسية وقضوا عليها واحدة تلو الأخرى، حتى بلغوا مدينة أشبيليا عاصمة
ابن عبَّاد، فاضطر حاكم أشبيليا المعتمد بن عباد إلى طلب النجدة من أمير
المرابطين بالمغرب وعندما روجع في ذلك قال قولته المشهورة (رعي الجمال خير
من رعي الخنازير). وكان أنْ لَـبَّى يوسف بن تاشفين استغاثة الأندلس وعبر
إلى نجدتهم وانتصر على الفرنجة في الموقعة المشهورة بالزَّلاقة (479هـ)
وعاد إلى المغرب منصورًا مظفرًا.
وتنقضي ثلاث سنوات ويناوش الفرنجة
المعتمد مرة أخرى، فيستعين ثانية بابن تاشفين الذي عبر إلى الأندلس وقضى
على الأعداء (484هـ) ولكنه في هذه المرة قضى على ملوك الطوائف معهم وضمّ
الأندلس إلى ملكه وبدأ حكم المرابطين عليها. وتوفي يوسف سنة 500هـ وقام
ابنه عليٌ بالأمر من بعده.
كان حكم المرابطين في الأندلس يرتكز على
قاعدة من الجهاد الديني، ومن ثم نعم العلماء والفقهاء في عصرهم بتكرمة
وتجلة، وقلّ حظ الشعراء والأدباء، إذ لم يكن حس حكام المرابطين باللغة
العربية في شفافية حس من سبقهم من الحكام العرب.
بدأ المرابطون ينغمسون
في حياة الأندلس وما فيها من دعة وترف ومجون، ويفقدون سَمْتَهُم الحربي،
ونتيجة لذلك مُنيَت جيوشهم بهزائم متلاحقة من جيوش الفرنجة. ثم ثار في عام
540هـ أهل أشبيليا عليهم وخرجوا عن طاعتهم وبايعوا عبد المؤمن بن علي خليفة
المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين بالمغرب.
دولة الموحدين (524 -
567هـ). دولة إفريقية قبلية دينية، نشأت في المغرب في أعقاب دولة
المرابطين. وترجع في نشأتها إلى قبائل المصامدة. وجوهر دعوتها الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان مؤسسها ابن تومرت صاحب ورع ونسك وغيرة على
الدين وفصاحة وبيان.
وفي أعقاب ثورة أهل الأندلس على المرابطين وخلع
طاعتهم تردت الأندلس إلى مثل حالها في عهد ملوك الطوائف وعاد الفرنجة
يهاجمون المدن الإسلامية. فالتمس أهل الأندلس النجدة من الموحدين. فعبر عبد
المؤمن بن علي سنة 525هـ إلى الأندلس وفتح كثيرًا من مدنها وضمها إلى
مُلكه، وجعل أشبيليا عاصمة له، وكان ذلك نهاية دولة المرابطين وقيام دولة
الموحدين بها.
اهتم الموحدون بأمور الدين والعقيدة اهتمامًا عظيمًا،
وحظيت العلوم والآداب بتشجيعهم، كما اهتموا بالبناء والمعمار. وبلغت هذه
الدولة أوج مجدها في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ثم في عهد ولده أبي
يوسف. وقد دام حكم الموحدين للأندلس حوالي مائة وثلاثين سنة. ومن معاركهم
المشهودة الأرك سنة 591هـ، وهي تماثل موقعة الزَّلاقة في شهرتها. ولكنهم
هُزموا في معركة العقاب هزيمة كانت قاصمة الظهر للمسلمين في الأندلس، إذ
تمكن ملوك النصارى من بعدها من استرداد المدن واحدة فأخرى فيما عرف بحرب
الاسترداد، فسقطت أشبيليا وقرطبة وبلنسية ومرسية، وانحصرت دولة الأندلس في
رقعة صغيرة في الجنوب هي ماعُرف بدولة بني الأحمر.
دولة بني الأحمر (635
- 898هـ). بعد سقوط دولة الموحدين في الأندلس تمكّن محمد بن هود صاحب
بطليوس من مدِّ نفوذه على عدد من المدن الأندلسية. وفي هذه الفترة ظهر محمد
بن يوسف بن نصر من بني الأحمر وهم آخر ملوك العرب في الأندلس، وأخذ يتصدى
لقتال النصارى، مشكلاً مع ابن هود النَفَس الأخير في شرارة الجهاد، غير
أنَّ كليهما كان أضعف من أن يرد النصارى عن ملكه أو أن يحمي مملكته.
فاستطاع الإفرنج الاستيلاء على ألمريَّة وقتل ابن هود ولم يبق للمسلمين في
الأندلس سوى غرناطة يتولى أمرها بنو الأحمر. وقد استطاعت هذه الدويلة
الصغيرة أن تؤخر خروج المسلمين من الأندلس نحو قرنين ونصف من الزمان.
أقام
بنو الأحمر مملكة غرناطة في هذه الظروف الصعبة. فمن الناحية السياسية كان
عصرهم عصر فتن وانقلابات، وعصر حروب متصلة بين المسلمين والنَّصارى، تارة
يمدهم ملوك المغرب بنجدتهم وأخرى ينصرفون عنهم. وكما عَرف هذا العصر سلاطين
أقوياء من بني الأحمر عَرف سلاطين ضعفاء تخاذلوا أمام العدو ودخلوا في
طاعته. وبلغ الأمر ذروته في الصراع الدائر بين السلطان أبي الحسن علي بن
سعد وابنه أبي عبدالله محمد من ناحية، ثم بين الأخير وعمه أبي عبدالله بن
سعد من ناحية أخرى. وانتهى الأمر بعد صراع طويل بين الأب وابنه بفرار الابن
إلى قرطبة، مستغيثًَا بالملك فرديناند والملكة إيزابللا.
وبينما كان
نصارى أوروبا يتجمعون في أسبانيا للقضاء على المسلمين في الأندلس، كانت
الحرب على أشدها بين السلطانين، وانتهى الأمر بالانقسامات الداخلية، وقد
بلغ النصارى مشارف غرناطة. فعقد مجلس أشار الأعيان فيه بتسليم المدينة وكان
ذلك آخر أمر المسلمين في الأندلس، فسلّم أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة
مفاتيحها إلى فرديناند وإيزابللا، وانطوت عام 898هـ صفحة من تاريخ الإسلام
في الأندلس بعد قرون ثمانية خلفوا فيها زخمًا من الآثار والحضارة في مختلف
المناحي.
وفي هذا العصر عرفت غرناطة نهضة في المباني والعمران وكذلك
نهضة في الآداب والفنون، ولعل التوجس من الخطر القريب دفع أهل غرناطة إلى
مجالات من التنفيس، اتخذت من الأدب شعرًا ونثرًا منافذ للطاقات المكبوتة.
تقييم العصور السياسية والأدبية في الأندلس
اتسمت
هذه العصور بسمات خاصة، فإن كان عصر تأسيس الإمارة هو بداية الطريق في وضع
اللبنات الأولى لما أعقبه من نهضة عمرانية وعلمية وأدبية، فإن العصر
الأموي يمثل ذروة مابلغته الأندلس من نهضة مزدهرة. أما عصر ملوك الطوائف،
فبالرغم من ترديه السياسي، تميّز بازدهار الحركة الأدبية وكثرة الشعر
والشعراء وازدهار فن الموشح، مع تأسيس لمكانة العلماء والأدباء، لما وجدوه
من حفاوة في بلاط الحكام المختلفين. أما عصر المرابطين فكان عصرًا دينيًا
ضعفت فيه الحركة الأدبية شيئًا، وظهر فيه فن الزجل ولقي رواجًا كبيرًا.
ومثله كان عصر الموحدين الذي أدى التأمل الديني فيه إلى نشاط الحركة
الفلسفية وما تبع ذلك من التفكير الفلسفي الحر. ويبقى عصر بني الأحمر أو
عصر الجلاء بما فيه من حياة قلق وتوجس وترف ورخاء يفيض بشعر كثير، فهو تارة
يصف النكبة وأخرى يصور حــياة الدعة والمجون، فقد نضجت الفنون الأدبية على
نار هادئة من المحن والكوارث، فنهض الموشح والزجل والشعر نهضة واسعة.
الفنون الأدبية في الأندلس
تشمل الفنون الأدبية
الشعر بأنواعه: التقليدي والموشحات والزجل وكذلك النثر من ترسل ومقامات
وتوقيعات وخلافه، كما سيلي تفصيله.
الشعر
يلفت النظر شيوع الشعر في
المجتمع الأندلسي، إذ لم يكن الشعر وقفًا على الشعراء المحترفين وإنما
شاركهم في ذلك الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفة والأطباء وأهل
النحو واللغة وغيرهم. فالمجتمع الأندلسي بسبب تكوينه الثقافي القائم على
علوم العربية وآدابها، ثم طبيعة الأندلس التي تستثير العواطف وتحرك الخيال،
كل ذلك جعل المجتمع يتنفس الشعر طبعًا وسليقة وكأنما تحول معظم أهله إلى
شعراء.
اتجاهات الشعر الأندلسي
ينقسم
الشعر في الأندلس إلى ثلاثة اتجاهات: 1- الاتجاه المحافظ، ويهتم هذا
الاتجاه بالموضوعات التقليدية ويتبع منهج القدماء في بناء القصيدة، وأسلوبه
بدوي، وفي ألفاظه جزالة وعبارات لا تخلو من خشونة وحوشيّة، وأما بحوره
فطويلة وقوافيه غنائية. هذا الاتجاه يحتذي نماذج المشرق وإن كان في واقع
الأندلس في تلك الفترة، وهي فترة تأسيس الإمارة، ما يسوِّغ غلبة الموضوعات
التقليدية وهي سمة الشعر المحافظ. فالفترة كانت فترة صراعات وحروب تتطلب
شعرًا يعبِّر عن الفخر والحماسة. كما كان الحكام عربًا تهزهم أريحية المدح
والكرم. أما الغزل فكان يعبّر عن الحب الصادق فلا مجال إلا لفارس عاشق أو
عاشق فارس يُذكر بعنترة بن شداد. ولعل أهل الأندلس كانوا يتمثلون عالم
الآباء والأجداد، حيث الصحراء والكثبان والواحات، وهم في عالم الأندلس الذي
يبعد عن ذلك العالم، وكأنهم يستلهمون العالم المثالي. وقد فطن ابن بسام
لتقليد الأندلس للمشرق، فأطلق العبارة التي أصبحت مثلاً، وهي قوله: ¸إن أهل
هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع
الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب أو طَنَّ بأقصى الشام
والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنمًا وتلوا ذلك كتابًا محكمًا•. وبالرغم من
ذلك كان لهذا الاتجاه سماته الخاصة في الشعر الأندلسي، وقد جعلت تلك السمات
لهذا الشعر ذاتية مستقلة، وطبعت الملامح الأولى للشعر الأندلسي وميزته عن
الشعر المشرقي. ومن أشهر شعراء هذا الاتجاه: عبد الرحمن الداخل وأبو المخشى
والحكم بن هشام وعباس بن ناصح وغيرهم من شعراء الفترة الباكرة. 2- الاتجاه
المحدث، وهو الاتجاه الذي حمل لواءه بالمشرق أبو نواس ومسلم بن الوليد
وأبوالعتاهية ومن إليهم من دعاة التجديد، حيث ثاروا على الاتجاه المحافظ
وطرقوا موضوعات جديدة بأسلوب جديد، خالفوا فيه طريقة القدماء في بناء
القصيدة.
عرف الأندلس هذا الاتجاه على يد عباس بن ناصح حيث نقله من
المشرق. وتمثل الاتجاه المحدث في الأندلس باهتمامه بأغراض لم تكن قائمة
بذاتها في القصيدة من قبل. فظهرت الخمريات والغزل الشاذ والمجون والزهد، كل
ذلك في أسلوب قصصي لا يخلو من روح الدعابة والسخرية. أما صوره فتتألّف من
عناصر حضرية في لغة يسيرة الألفاظ وإيقاع يميل إلى البحور القصيرة والقوافي
الرقيقة.
وجد هذا الاتجاه صدى واسعًا في الأندلس، إذ إن حياة الأندلس
انفتحت على لون من الترف ودعة العيش، فكثرت مجالس الموسيقى والغناء بفضل ما
أدخله زرياب من ألحان وآلات، ثم بفضل مالقيه من الحكام من تشجيع وعناية.
فتلقى الشعراء هذا الاتجاه بالإعجاب لأنه أصدق في التعبير عن واقعهم وعن
حياتهم التي غمرها الترف ورقة العيش. ويعد الشاعر يحيى بن حكم الغزال من
أشهر رواد الاتجاه المحدث. 3- الاتجاه المحافظ الجديد. ظهر هذا الاتجاه في
المشرق بسبب تطرف الاتجاه المحدث ومن ثم هو محاولة لإعادة الشعر العربي إلى
طبيعته وإلى موروثه دون جمود أو بداوة. عمد هذا الاتجاه إلى الإفادة من
رقي العقل العربي بما بَلَغَتْه الثقافة العربية الإسلامية من نهضة واسعة
في مجتمع توفرت له أسباب الحضارة. وكان هذا الاتجاه محافظًا في منهج بناء
القصيدة ولغتها وموسيقاها، وكذلك في قيمها وأخلاقها وروحها، ولكنه مجدد في
المضمون وفي معاني الشعر وصوره، وكذلك في أسلوبه. ويمثل أبو تمام والبحتري
والمتنبي دعائم هذا الاتجاه في المشرق. وقد عرفت الأندلس هذا الاتجاه على
يد نفر من الأندلسيين رحلوا للمشرق وعادوا للأندلس بأشعار البحتري وأبي
تمام. وكانت فترة الخلافة هي ذروة نضجه، إذ كان المجتمع الأندلسي في هذه
الفترة قد تجاوز الانبهار بالمستحدثات الحضارية التي بهرت شعراء القرن
الثاني، فعبروا عنها في لهو ومجون وتمرد. ولكن في القرن الثالث كان المجتمع
الأندلسي أكثر استقرارًا وتعقلاً ومن ثم وجد الاتجاه المحافظ قبولاً وأصبح
هو الصورة المثلى للشعر الفصيح متجاوزًا الاتجاهين القديم والمحدث.
تأثرت
أشعار الأندلس منذ القرن الثالث بهذا الاتجاه في المنهج والروح والأفكار
واللغة والموسيقى والصياغة والأسلوب. وأضحى شعر أعلام المشارقة هو النموذج
الذي يحتذى. ومن أعلام هذا الاتجاه في الأندلس ابن عبد ربه وابن هانئ
والرمادي وغيرهم.
أغراض الشعر الأندلسي
عالج شعراء الأندلس مختلف
أغراض الشعر وإن تميزت بعض الأغراض باهتمام أكثر من غيرها. ويمثل الشعر
خاصة أحد جوانب الحضارة العربية الأندلسية، فقد عبر عن قوالب تلك الحضارة
وعن مضمونها، كما عبر عن طبيعة الصراعات السياسية والتغيّرات الاجتماعية في
الأندلس.
ومن أهم الأغراض التي عالجها الشعر الأندلسي الغزل، وأوضح
سماته تلك الرقة في العواطف المعبّر عنها في رقة البيان. وكان للحياة
الأندلسية دور إيجابي في طبيعة شعر الغزل، فهو غزل حسّي يقف عند حدود الوصف
المادي مستعيرًا، أوصاف المحبوب من البيئة حوله. وبالرغم من ذلك فهناك من
اتخذوا الغزل العفيف مذهبًا لهم، كابن فرج الجياني الذي يقول:
وطالعة
الوصال صددت عنها وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة
فباتت دياجي الليل سافرة القناع
فملّكت الهوى جمحات قلبي لأجري في
العفاف على طباعي
ومن أهم سمات الغزل الأندلسي ارتباطه بمجالس اللهو
والخمر وتعبيره عن تلك الحياة اللاهية. ومن ثم لم يسلم الغزل من ألفاظ
نابية، خاصة في عصر ملوك الطوائف حين أسَفَّ في معانيه معبّرًا عن مستوى
ماجن.
كما كان الغزل الشاذ غرضًا شعريًا له رواده، وإن لم يكثروا منه،
كأبي نواس في المشرق مثلاً. وبالمثل يبدو تأثير البيئة في الغزل بالفتيات
النصرانيات وذكر الكنائس والأديرة والرهبان والصلبان وما إلى ذلك من معطيات
البيئة الأندلسيّة.
وأجمل مافي الغزل الأندلسي بجانب لطف التعبير، أن
الصادق منه شديد التأثير خاصة حين يبكي الشاعر ويحن في إيقاع غير متكلف.
ويمثل ابن زيدون قمة هذا الاتجاه خاصة في قصائده إلى وَلادَة بنت المستكفي،
ومن أجملها قوله في نونيّته:
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا
الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سُودًا وكانت بكم بيضًا
ليالينا
ومن أشهر شعراء الغزل في الأندلس ابن زيدون وابن سهل
الإسرائيلي وابن شُهَيْدِ، وإن كان كل الشعراء قد أدلوا بدلوهم في شعر
الغزل.
أما شعر المدح فكان موجهًا إلى الأمراء والخلفاء والحكام.
ويتناول جانبين من حياتهم: أولهما الصفات التي يخلعها الشاعر على ممدوحه من
شجاعة ووفاء وكرم، والجانب الثاني انتصارات الممدوح التي هي نصر وعزٌ
للإسلام والمسلمين، ثم وصف لمعاركهم الحربية.
ويتراوح أسلوب المدح بين
الجزالة والسهولة، والفخامة والرقة، وفقًا لطبيعة المعاني المعبّر عنها.
ولكنه بوجه عام يميل إلى التأنق في العبارة والصياغة. وقد تختلف طريقة بناء
قصائد المدح بين شاعر وآخر. فبعضها كان ينهج نهج الأقدمين، فيبدأ بمقدمة
طللية ونسيبٍ ووصف للرحلة ثم يتخلص إلى المدح، بينما نجد من الشعراء من
يعمد إلى موضوعه مباشرة دون مقدمات. ويقدم صنف ثالث بين يدي ممدوحه شيئًا
من الغزل أو وصف الطبيعة أو مجالس الخمر أو الشكوى والعتاب، وعقب ذلك ينتقل
إلى المدح.
ومن أشهر شعراء الأندلس في هذا الغرض الشعري ابن حمديس وابن
هانئ وابن زيدون وابن دراج القسطلي. ولا نجد من الشعراء المحترفين شاعرًا
لم يعالج هذا الغرض.
يقول ابن حمديس مادحًا الأمير أبا الحسن علي بن
يحيى:
تُفشي يداك سرائر الأغماد لقطاف هام واختلاء هوادي
إلاّ
على غزوٍ يبيد به العِدى لله من غزو له وجهاد
ما صونُ دين محمد
من ضَيْمِه إلاّ بسيفك يوم كلِّ جلاد
وطلوع راياتٍ وقود جحافل
وقراع أبطال وكرِّ جياد
ويقول ابن هانئ مادحًا إبراهيم بن جعفر:
لا
أرى كابن جعفر بن عليّ ملكًا لابسًا جلالة مُلْك
مثلُ ماء الغمام
يندي شبابًا وهو في حُلّتي تَوَقٍّ ونُسك
يطأ الأرض فالثرى لؤلؤ رطـ
ـب وماء الثرى مُجَاجة مسك
ويقول ابن زيدون للوليد بن جهور:
للجهوريِّ
أبي الوليد خلائق كالروض أضحَكه الـغمام الباكي
مَلِكٌ يسوس
الدهرَ منه مهذبٌ تدبيره للمُلك خيرُ مِلاك
جارى أباه بعد ما فات
المدى فتلاه بين الفوت والإدراك
أما شعر الرثاء في الأندلس، في
معناه التقليدي، فلم يكن من الأغراض الرائجة، وظل يحذو حذو نماذج الشعر
المشرقي حين يستهلّ برد الفواجع ووصف المصيبة التي حلت بموت الفقيد. وعادة
تستهل القصيدة بالحِكَم وتختتم بالعظات والعبر.
أما رثاء المدن والممالك
فهو الغرض الأندلسي الذي نبعت سماته وأفكاره من طبيعة الاضطراب السياسي في
الأندلس. وكان مجال إبداعٍ في الشعر الأندلسي. وقد ظلت قصيدة أبي البقاء
الرَّنْدِي التي مطلعها:
لكل شيء إذا ماتم نقصان فلا يغر بطيب العيش
إنسان
ورائية ابن عبدون:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء
على الأشباح والصور
وسينية ابن الأبَّار:
أدرك بخيلك خيل الله
أندلسا إن الطريق إلى منجاتها درسا
عدا ما قيل في مراثي بني عبّاد
ووزيرهم المعتمد، ظل كل ذلك من عيون الشعر العربي عامة والأندلسي خاصة.
تبع
الشعر الأندلسي الشعر المشرقي في هذا اللون من التعبير، وإن كان شعراء
الأندلس، لعناية الأندلس بالفلسفة، قد حققوا قدرًا ملحوظًا من العمق في
المعنى والبراعة في التصوير حين يتناولون موضوعات في الحكمة. فقد كان من
شعراء الأندلس من طوعوا الفلسفة للشعر والشعر للفلسفة، فصوروا الخواطر
النفسية والتأملات الفكرية مما يُعد مجال إبداع في هذا اللون من الشعر.
ونمثل لهذا الغرض بقول أمية بن عبد العزيز:
وما غربة الإنسان في غير
داره ولكنها في قرب من لايشاكله
أو قول الآخر:
تفكر في نقصان
مالك دائمًا وتغفل عن نقصان جسمك والعمر
ويقول الشاعر الغزال:
أرى
أهل اليسار إذا تُوُفُّوا بَنوا تلك المقابر بالصخور
أبوْا إلاّ
مُبَاهاة وفخرًا على الفقراء حتى في القبور
إذا أكل الثرى هذا
وهذا فما فضل الغنيّ على الفقير
أما الزهد والتصوف والمدائح
النبوية؛ فلعل حياة الدعة والترف والمجون التي غرق فيها المجتمع الأندلسي،
أدت إلى اتجاه معاكس، يفسر نزعة الزهد والتصوف التي راجت في الشعر
الأندلسي. فالأندلسيون تفوقوا على الـمَشَاِرقَة في هذا الغرض، غزارةً في
الإنتاج وتوليدًا للمعاني ورسمًا للصور المؤثرة القوية. ويلفت النظر أن
عددًا من شعراء الأندلس أدركتهم التوبة بعد طول حياة لاهية، فوجهوا طاقتهم
الشعرية في آخر أيامهم إلى طلب مغفرة الله ومرضاته وإلى ذم حياة اللهو
والمجون والدعوة إلى الزهد والتقشف. ومن أشهرهم في هذا المقام ابن عبدربه
وابن حمديس والغزال. يقول ابن عبدربه:
إنّ الذين اشتروا دنيا بآخرة
وشقوة بنعيم، ساءَ ما تجروا
يامن تلهىَّ وشيب الرأس يندبه
ماذا الذي بعد وَخْطِ الشيب تنتظر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان
فيه عن اللذات مزدجر
وأما التصوف فقد اشتهر به من شعراء الأندلس أعلام
على رأسهم شيخ المتصوفين ابن عربي وابن سبعين وابن العريف والشستري
وغيرهم.
وقد وجه الشعر الأندلسي طاقة كبيرة للتغني بمدائح الرسول ³،
وكان أهل الأندلس قاطبة يحنون إلى الحجاز وإلى مهبط الوحي وإلى المدينة
المنورة. وقد اتسع المديح النبوي منذ القرن السادس الهجري وأصبح من أغراض
الشعر الأندلسي المقدَّمة، وكان من أسباب ذلك إحساس أهل الأندلس بضيعة
الإسلام، عندما تكاثرت عليهم جيوش النصارى، فاتخذوا من الشعر أداة
للاستغاثة بالرسول الكريم وكانوا يرسلون القصائد إلى القبر النّبوي الشريف
واصفين محنهم وأذاهم.
ومن أشهر هؤلاء الشعراء أبو زيد الفازازي وابن
جابر الأندلسي وأبو الحسن الرُّعَيْني وغيرهم من شعراء الأندلس.
وكثر
شعر الطبيعة والخمر، وكان لطبيعة الأندلس الأثر الحاسم في جعل هذا الغرض من
أميز أغراض الشعر الأندلسي. وتمثل طبيعة الأندلس الملهم الأول لشعراء
الأندلس، خاصة أن مجالس الخمر واللهو والغناء كانت تقام في أحضان هذه
الطبيعة. وقد عبّر ابن خفاجة، أشهر شعراء الطبيعة في الأندلس، عن هذه
الصلة، فقال:
يا أهل أندلس لله درُّكمُ ماءٌ وظلٌ وأنهار
وأشجار
ما جنة الخلد إلاّ في دياركمُ ولو تخيرت هذا كنت أختار
ويتَّسِم
هذا اللون من الشعر بإغراقه في التشبيهات والاستعارات وتشخيص مظاهر
الطبيعة وسمو الخيال. كما كان يقوم غرضًا مستقلاً بذاته ولا يمتزج بأغراض
أخرى، وإن امتزج بها لم يتجاوز الغزل أو مقدمات قصائد المدح.
ويعد معظم
شعراء الأندلس من شعراء الطبيعة. فكل منهم أدلى بدلوه في هذا المجال، إما
متغنيًا بجمال طبيعة الأندلس، أو واصفًا لمجالس الأنس والطرب المنعقدة
فيها، وإما واصفًا القصور والحدائق التي شُيدت بين أحضان الطبيعة. ولذلك
كان كل شعراء الأندلس ممن وصفوا الطبيعة.
ويُعدُّ الشاعر ابن خفاجة
الأندلسي المقدَّم بين هؤلاء الشعراء، إذ وقف نفسه وشعره على التغني
بالطبيعة لا يتجاوزها وجعل أغراض شعره الأخرى تدور حولها.
النثر
تماثل
حالة النثر في الأندلس حالته في المشرق إلى حد بعيد. فالتأثير الفكري
والفني بين الأندلس والمشرق كان متبادلاً. وكانت رحلة العلماء والأدباء
ضرورة علمية يُحرص عليها. ومن ثم اتفق المشرق والأندلس في طبيعة الموضوعات
والأساليب فعرف الأندلس طريقة الجاحظ في الكتابة، وبديع الزمان الهمذاني
والحريري في المقامات، وابن العميد والقاضي الفاضل في الترسل. ونحاول في
إيجاز التَّعريف بأهم الفنون النثرية التي راجت في الأدب الأندلسي.
الرسائل
الديوانية
احتاجت الدولة الأندلسية إلى هذا اللون من الرسائل الذي عُني
بالمضامين السياسية والإدارية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية وما
إليها من مهام تتطلبها الدولة وهي تصدر من ديوان الحكم، يكتبها الحاكم
بنفسه أو يكتبها عنه كاتبه، وتمثل المنشورات الرسمية التي ترسم سياسة
الدولة ومن هنا كانت مادتها تشمل مختلف أمور الدولة ونظمها.
وهي عندما
تصدر عن الكتاب المحترفين تتخذ أسلوبًا لا يخلو من الصنعة والتأنق
والمحسنات، أما عندما يكتبها الأمراء أنفسهم فتكون عادة مباشرة تخلو من
الزخرفة والصنعة.
وتُعد العهود من باب الرسائل الديوانية. وقد برع ابن
برد الأكبر في هذا اللّون من الترسل، وبلغ عددٌ من كتاب الأندلس ذروة فنية
بسبب هذا اللون من الرسائل. وكان التنافس بينهم حادًا. كما كان الأمراء
يحرصون على أن يكون في بلاطهم أهل البلاغة والفصاحة من الكُتَّاب. وعلى
كلٍّ فقد كانت الرسائل الديوانية من أوسع أغراض النثر في الأندلس، وأدت
ببعض الكتاب ممن عرفوا بذوي الوزارتين، إلى تسنم مرتبة الوزارة والحكم.
الرسائل
الإخوانية
هي ذلك اللون المتبادل بين الكتاب بعيدًا عن الطابع الرسمي،
أو يعالج أغراضًا تحمل الطابع الذاتي من تهنئة وتعزية وشكر واعتذار وعتاب
وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية بين الإخوان. وهي تعكس جانبًا من
الحياة الاجتماعية والفكرية والأدبية في الأندلس. وقد حفل كتاب الذخيرة
بطائفة منها وهي لا تختلف كثيرًا عن نمط رصيفتها في المشرق.
الرسالة
الأدبية
هي ذلك اللون من الترسل الذي يؤدي موضوعات كانت من قبلُ وقفًا
على الشعر. وأسلوبها لا يخلو من سخرية أو وصف أو عاطفة، كما ينقل إلى النثر
أهم أدوات الشعر من خيال وتصوير. هذه الرسائل تحتوي على نظرات في الحياة
والأحياء وحكم عن النفس وموقف من المجتمع.
وتُعد رسالة التوابع والزوابع
لابن شهيد، بما فيها من خيط قصصي، من أهم الرسائل الأدبية في الأندلس
وكذلك رسالتا ابن زيدون الرسالة الجدية و الرسالة الهزلية، ثم رسالة ابن
برد الأصغر البديعة في تفضيل أُهُب الشاة.
هذا اللون من الرسائل جاء
متأثرًا برسالة الجاحظ التربيع والتدوير، وكذلك بكتابه البخلاء حيث يضفي
على الموضوع اليسير روحًا من الجد والوقار.
رسائل المناظرات والمفاضلات
هي
تلك الرسائل التي تُعنى بطرح الأدلة والجدل والحوار داخل إطار من الفلسفة
والمنطق والاستدراك، وغرض الكاتب إظهار براعته مستفيدًا من ثقافته، وقدرته
على الصياغة والاستدلال. وتُعد رسالة ابن برد الأصغر رسالة السيف والقلم من
أميز هذه النماذج في النثر الأندلسي. وموضوعها مناظرة بين دعامتي الدولة:
المحارب والكاتب. كل منهما يرى أنه المُقدم في تدعيم أركان الدولة، وكل
فريق يؤيّد وجهة نظره بما يلتمسه من الأدلة والبراهين.
وتُعد أيضًا
رسائل الورود التي جاءت على ألسنة الكتاب كلٌ يفضّل وردًا أو زهرًا بعينه،
من هذا اللون من رسائل المناظرات. وقد كتب عدد من كتاب الأندلس في هذا
النهج، ومن أهمهم أبو الوليد حبيب الحميري وابن برد الأصغر وأبو عمر الباجي
وأبو مروان الجزيري. وكل من هؤلاء الكتاب اتخذ من ورد أو زهر معين رمزًا
لأميره أو لولي نعمته، وجعل من تفرّد هذا الورد بين الورود نظيرًا لتفرد
أميره بين الأمراء. كما تشف هذه الرسائل عن الصراع والحسد في بلاط الأمراء،
ولها من المعاني الرمزية ما يحتمل مختلف التفسيرات. وهي في كل أحوالها تدل
على قدرة النثر الأندلسي حين اتخذ كُتابه من الطبيعة ومظاهرها موضوعًا
للجدل بدلاً من الجدل حول شؤون القصيدة كما كان الأمر في المشرق.
ولعل
استغراق الطبيعة لأهل الأندلس وحبّهم لمظاهرها جعل من الموضوع منافسة
أدبية، وظّف الكتّاب في شأنها براعتهم بأساليب الجدل والمناظرة. وقد تأتي
رسائل المناظرات على نحو سياسي أو شعوبي مثل رسالة ابن غرسيه التي يفضل
فيها العجم على العرب. وقد أثارت ردودًا كثيرة وأضحت من أشهر الرسائل
الأدبية في الأندلس، فرد عليها ابن البلنسي و ابن من الله القروي وغيرهما.
ومن
رسائل المناظرات والمفاخرات تلك التي كانت بين المدن الأندلسية. ومن أهم
هذا النمط من الرسائل ماكتبه لسان الدين بن الخطيب، وكذلك رسالة ابن حزم
الأندلسي في فضل علماء الأندلس، ورسالة أبي بحر بن إدريس بين المدن
الأندلسية.
المقامات
تنقسم المقامات الأندلسية إلى نمطين: النمط
التقليدي وهو حكايات قصيرة يسودها شبه حوار، وقوامها بطل وراو وعقدة، ويتبع
نموذج بديع الزمان الهمذاني في المشرق والنمط الثاني غير تقليدي، وهو أقرب
للرسالة، وقد يأتي في قالب قصصي أو غير قصصي، وقد يكون فيه بطل وراوٍ
وعقدة أو لايكون.
عرفت الأندلس المقامة من خلال حركة المد الثقافي بين
المشرق والأندلس. فانتقلت المقامة إلى الأندلس في عهد ملوك الطوائف وعارضها
عدد من أدباء الأندلس مقلدين بديع الزمان الهمذاني. ثم انتشرت مقامات
الحريري في الأندلس وعُني بها علماء الأندلس وأهل الأدب عناية واسعة، وقام
أبو العباس الشريشي الأندلسي بشرح مقامات الحريري في أهم شروحها الثلاثة
المسماة الكبرى والوسطى والصغرى.
وأهم كاتب أندلسي حذا حذو المقامة
المشرقية التقليدية أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي بمقاماته المسماة
المقامات اللزومية، نسبة إلى كاتبها. وقد عالجت هذه المقامات مختلف الأغراض
والموضوعات سياسيّها واجتماعيّها وخلقيّها وأدبيّها. وكان لها راوٍ وبطل
مثل مقامات الهمذاني والحريري. وتُعد مقامة ابن شرف القيرواني التي عالج
فيها الحياة الأدبية في المغرب والأندلس على نهج المقامة التقليدية، من أهم
هذا اللون من المقامات، وقد بنيت على سياق هرمي من العصر الجاهلي حتى
القرن الرابع، وذكر فيها مايربو على الأربعين شاعرًا، وكان يقارن بين شعراء
المغرب والمشرق. كما نجد مقامة عبد الرحمن بن فتوح وهي نص قصير أورده صاحب
الذخيرة مبتسرًا، ويُعد موضوعها من موضوعات النقد الأدبي.
أما المقامات
غير التقليدية، وهي التي تفتقد البطل والراوي، فكان من أهم موضوعاتها
المدح الخالص، مثل مقامة أبي عامر بن أرقم في الأمير تميم بن يوسف بن
تاشفين حاكم المرابطين، وكذلك مقامة الوزير أبي الوليد محمد بن عبد العزيز
المعلم، والأرجح أنها في مدح المعتـضد ابن عباد. هذه المقامات أقرب ما تكون
إلى قصائد مدح منثورة تحل الشعر تارة وتعقد النثر أخرى، ولا تحفل بعقدة أو
حيلة أو بطل أو راوٍ، ولكنها تهتم بإظهار براعة كاتبها في المدح وتلتزم
دائمًا اللغة المسجوعة المزخرفة، وتظهر حظ كاتبها من البلاغة والبيان. وهي
تمدح القواد والرؤساء ورجال العلم والأدب، كما مدحت الأمراء والحكام. ومن
هذا الضرب مقامة أبي بكر يحيى بن محمد الأركشي المسماة قسطاس البيان في
مراتب الأعيان، وهي مدح للعلماء وأصحاب المعارف.
وكما اختصت المقامة غير
التقليدية في الأندلس بالمدح اختصت كذلك بالهجاء؛ هجاءٌ سافر مرة وفاحش
مقذع مرة أخرى. وتُعد المقامة القرطبية المنسوبة إلى الفتح بن خاقان في
هجاء الأديب البطليوسي من أشهر مقامات الهجاء في الأدب الأندلسي؛ إذ أثارت
حولها جدلاً وتبرأ من كتابتها كل من نسبت إليه. فقد نسبت إلى عبدالله بن
أبي الخصال وتبرأ منها، كما نسبت إلى ابن خاقان فتبرأ منها. وكتب الوزير
أبو جعفر بن علي رسالة سمّاها رسالة الانتصار في الرد على صاحب المقامة
القرطبية، وهي رسالة تسلك مسلك مقامات الهجاء. ولعل الغريب في أمر هذه
المقامة القرطبية أن البطليوسي نفسه لم يرد عليها. وأعجب من ذلك أن أبا
الحسن المرسي كتب مقامة هجاء قائمة بذاتها في البطليوسي، ويبدو أن
البطليوسي اختص بعداء أهل زمانه. أما المقامة التي يُجهل كاتبها وهي في ثلب
بن الرياحي فتعد أقذع مقامات الهجاء في الأندلس، ففيها إسفاف وفحش في
القول وسلاطة لسان.
ومن أغراض المقامات غير التقليدية غرض المشاهدات
ووصف الطبيعة في الأندلس. وكان لسان الدين بن الخطيب أشهر كتاب المشاهدات
في مقامته خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف، فهي تصف الطبيعة في أحوالها
المتقلبة، كما تقف على المدن الأندلسية وتصفها وصفًا يتجاوزها إلى عادات
الناس وأخلاقهم ومأكلهم وملبسهم. وأهمية مقامات المشاهدات أنها تعطي صورة
صادقة للحياة الاجتماعية في الأندلس، فتصف الأعياد والاحتفالات ومشاركة
المرأة للرجل، كما تتحدث عن قسوة الحياة في بعض الأقاليم ورخائها في أخرى،
ثم فن العمارة وحضارة الأندلس. وقد تتناول ترجمات لمشاهير الفقهاء والعلماء
والقضاة ورجال الأدب. وقد كتب ابن الخطيب مقامة أخرى على هذا النسق هي
معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار. ومثلها مقامة طيّ المراحل التي
كتبها أبو عبد الله محمد بن مسلم.
أما مقامات المفاخرات فكانت تتخذ من
المدن أكثر موضوعاتها، وقد تتخذ موضوعات من غير المدن، وإن كانت مفاخرات
المدن هي أشهرها، مثل مشاهدات ابن الخطيب في مفاخرات ملقا وسلا، ومقامة
الفقيه عمر الزجال مقامة في أمر الوباء، وهي مفاخرة بين مدينتي الحمراء
وملقا، ثم مقامة أبي الحسن علي بن عبد الله النباهي المسماة المقامة
النخلية، وهي مفاخرة هذه المرة بين نخلة وكرمة، يتخذ فيها النخلة رمزًا
للعرب والإسلام والكرمة لليهود وغير المسلمين، مبينًا هَوَانَ أمر العرب
والإسلام أيام دولة الأندلس بغرناطة حين صارت الأمور بأيدٍ غير عربية.
حفلت
فترة ملوك الطوائف بألوان من هذه الصراعات بين رجال السيف والقلم كما عبر
عنها ابن برد، أو حين اتخذت الأزهار والورود لمعانٍ رمزية. ولكن الأمر بلغ
ذروته حين اكتسى ثوبًا شعوبيًا صريحًا في رسالة ابن غرسيه التي ذم فيها
العرب وفخر بقومه العجم، فرد عليه أبو جعفر البلنسي و ابن من الله القروي و
عبدالله بن أبي الخصال، وإن كانت هذه الردود أدخل في دنيا الرسائل الأدبية
منها