فتح رئيس الجمهورية ، السيد عبد العزيز بوتفليقة ، رسالته الى الطلبة الجزائريين بمناسبة الذكرى ال54 ليوم الطالب ، بنص تذكاري موردا في “مثل هذا اليوم قرر أبناء الجزائر من الذين تمكنوا من تجاوز الموانع ومتاريس التجهيل المفروضة على الأغلبية الغالبة من الجزائريين والجزائريات وبروح وطنية وثابتة ، قرروا التخلي عن مقاعد الدراسة لأداء واجب أجدر ألا وهي المشاركة في معركة تحرير الوطن وتلبية نداء الأمة ومقتضيات المصير الذي تهون أمامه كل الغايات وتتوارى في سبيله كل الأهواء ” . ووصفه ب “القرار الجريئ الذي اتخذه الطلبة الجامعيون وتلاميذ الثانويات في 19 ماي 1956 بمغادرة مقاعد الدراسة لأجل مفتوح” .
وعبر، رئيس الجمهورية، عن وطنية ذلك الجيل الذهبي، بالإشادة بمناقبهم قائلا « فبمجرد صدور إيعاز من الثورة تم اتخاذ قرار الالتحاق الجماعي بها وهجرة مقاعد الدراسة والتحصيل وهي الخطوة التي شكلت بحد ذاتها هزيمة مادية ومعنوية للاستعمار الغاشم «.
اليوم بإمكاني القول انه حتى لو تباعد الزمن وتعاقبت السنوات على تلك المواقف فإنها تمثل رصيدا حقيقيا للأمة بفضل ثرائها الإنساني ووعيها المتألق وبإدراكها الصحيح لطبيعة الصراع وأبعاده .
وكذا قدرة هذه الفئة ، على تحويل الضعف الى قوة والتشتت الى وحدة ، تمكنت من زلزلة أركان النظام الاستعماري وزعزعة ثقته في نفسه تجعلنا نستشعر الحاجة الى الاستفادة منها في تغذية الحاضر وبناء المستقبل .
رسالة فلسفية وقيمية الى الطلبة من رئيس الجمهورية
وتضمنت أيضا ، رسالة رئيس الجمهورية ، حكمة عظيمة هذا نصها لمن ألقى السمع والشهيد ” فإذا كانت طبيعة الحياة تقتضي التجدد ، فإن الطبيعة ذاتها تفرض عدم التفريط في الدروس التاريخية المفيدة والخبرات التي تحمل في كيانها القدرة على الاستمرار والانتقال عبر الأجيال ، وأعني بذلك على وجه التحديد مسائل الهوية والانتماء والاعتزاز بالذات ، والمسائل المتعلقة بإدراك أولويات كل مرحلة والانخراط الفعلي في كل عمل ايجابي يهدف الى تطوير الوطن وترقية المواطن .
بوتفليقة للطلبة: اشربوا من ذلك الوعاء وعوا جيدا
ودعا رئيس الجمهورية الطلبة الى السفر والارتحال الى الماضي لأخذ الزاد المعرفي والنضالي منه لمن أراد الحياة حقا في هذه الفقرة العميقة جدا التي قال من خلالها ” إذا كنا في هذه الأزمنة نعيش أجواء متميزة بغزارة الأفكار والأراء وكثرة البدائل لتحقيق المزيد من التطور والتقدم ، فإننا مع هذا كله ، نبقى مطالبين بأن نتفاعل مع ميراث تلك المرحلة ومآثر العظماء الذين صنعوها تفاعلا يأخذنا الى أبعد من الترتيبات المألوفة ويغوص بنا إلى أعمق من الوقفات المعتادة.
وشبه الرئيس هذا التراث اللامادي قائلا إن ” هذه المرجعية المعنوية بقيمها وصناعها ومآثرها هي بمثابة شعاع من نور يضئ مسالك العاملين الصادقين في وطنيتهم والمتشبثين بمنابتهم وهي إجلاء للغشاوة التي قد تحجب البصر والبصيرة عن القيمة التي يشكلها هذا الرصيد في تحصين حاضرنا ومستقبلنا.
واستطرد رئيس الجمهورية ، في الثناء على دور هذه الشريحة في صناعة قرارات الثورة في شقيها العسكري والفكري مؤكدا أن ” التاريخ يسجل أن الطلبة الجزائريين من أبناء الأمة المخلصين كانوا على الدوام جزءا من القوى الوطنية المناضلة من اجل التحرير واسترجاع السيادة الوطنية وقد ساهموا بما أحرزوه من التعليم والاحتكاك بالتطورات في إثراء المنظومة السياسية والفكرية وعملوا الى جانب المناضلين في بلورة القواعد المرجعية للنضال السياسي والكفاح المسلح بشكله المتميز والصادق مع واقعنا التاريخي وعمقنا الحضاري أمام الخيارات والإغراءات الإيديولوجية المختلفة التي كانت معروضة في ساحات العمل النضالي عبر العالم في تلك الحقبة .
ورغم ما كلف انخراط الطلبة الجزائريين الدراسين في مؤسسات الاستعمار أو في المشرق والمغرب العربيين في القضية الوطنية من مشاق وتضحيات وما دفعوه جيلا بعد جيل من ضرائب بالدم والاعتقال والطرد من مقاعد الدراسة والتعذيب وغير ذلك من صنوف القهر والاستبداد الاستعماري فان ذلك لم يثنهم أبدا .
انظر وتدبر : ستجد طلبة علمتهم فرنسا ولم تسلبهم حب الجزائر
وأحال ، رئيس الجمهورية ، المستقرأ للماضي الى النظر والتدبر في ماضي الجزائر قائلا ” فالناظر الى مختلف التنظيمات الطلابية التي بدأت في التأسيس منذ بداية القرن الماضي ومنها “ودادية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا ” سنة 1918 ثم “جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا ” في 1931 يصل الى نتيجة جلية وهي أن الطلبة الجزائريين كانوا بالفعل في مقدمة القوى الوطنية الممانعة والمقاتلة من اجل المحافظة على الشخصية الوطنية والإبقاء على جذوة الرفض مشتعلة.
ونجح هؤلاء الطلبة بمختلف اتجاهاتهم طيلة سنوات ظلام الاستعمار في التعبير عن رفض الظلم الكبير الذي تتعرض له أمتنا وكانوا في كل الأحوال والظروف الامتداد المتطور والمستنير للكفاح الذي كانت الحركة الوطنية تخوضه وتقوده.
وحتى بالنسبة لأولئك الذين أسعفتهم الظروف في دخول المدارس الفرنسية وإتقان لسان المحتل فإنهم لم يغتربوا ولم يستلبوا ولم يصبحوا طابورا خامسا أو وسيطا خادما كما توهمه الذين سمحوا لهم بهذا الاستثناء في التعلم بل كانوا وشواهد التاريخ دليل إثبات في مقدمة المناضلين من اجل الوطن وحريته ولغته ودينه وكانوا باستنارتهم ومعرفتهم لمكامن القوة والضعف لدى العدو منارات تشع الوعي في العقول والضمائر وقد نجحوا كإخوانهم الآخرين في إعلاء كلمة الحق التي وصلت الى كل الأذان.
التحاق الطلبة بالثورة هزيمة إضافية لفرنسا
وإذا أرجئ إنشاء الاتحاد عاما بعد بداية الثورة للأسباب التاريخية المعروفة فان الطلبة كانوا بالقلب والروح مع خيار الشعب ولقد انتمى الكثير منهم للثورة منذ اللحظات الأولى لاندلاعها وكان منهم القائد والمجاهد والفدائي والطبيب والمحافظ السياسي والقاضي والمؤسس للمنظومة الفكرية والهيكلية لثورة التحرير.
وكان هذا الانتماء هزيمة مسبقة للعدو وانتصارا متقدما للثورة التي وجدت في انتسابهم إليها طاقة لها وزنها في ساحات الوغاء بما في ذلك مجالات المجابهة بالأفكار والاستراتيجيات.
بوتفليقة يترحم على أرواح الطلبة ممن التحقوا بالرفيق الأعلى
ونحن نسترجع تلك الأمجاد وتلك المواقف البطولية والوعي الناضج لا يسعني إلا أن أترحم على جميع الشهداء وكل الذين التحقوا بالرفيق الأعلى من طلابنا صانعي هذه الملحمة.
كما دعا الرئيس – الله عز وجل – أن يطيل في عمر من بقي منهم على قيد الحياة وأن يمدهم بوافر الصحة والرعاية وأن يجزيهم الجزاء الأوفى في الدارين جزاء ما قدموه بالأمس وما يقدمونه اليوم للوطن من البذل والعمل لتحويل أحلام وجهاد ورسالة نوفمبر المجيدة الى واقع ملموس ينبض بالحياة والانجازات في كل المجالات. وقد كابدوا في سبيل ذلك ومازالوا يكابدون عناء وتضحيات تترجم كل معاني الإخلاص والوفاء للعهد الذي أعطوه
لمن سبقهم من الإخوة الى دار الخلود. ويشهد الله أنهم كانوا من المجتهدين المأجورين إن شاء الله الذين سيسجل لهم التاريخ ما قدموه ويبوئهم المكانة التي يستحقونها.
إن حسمهم المبكر للخيارات والتأصيل لهذا الحسم بحوارات معمقة ونقاشات واعية شكلت مثالا للحرية في أعلى تجلياتها وبينت أن تبادل الرأي والديمقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تفضي الى التنافي أو التعارض مع المصير الوطني ولا مع الخصوصيات الحضارية والوجدانية للأمة. فما أحوج الجيل الجديد الذي ينعم بالحرية وبشروط أفضل للحياة الى أن يستفيد من تراث هذا الرعيل وخبرته في مواجهة الواقع الذي عاشه والذي كان اشد وأقسى مما يتصوره .
إن الجيل الجديد مدعو الى الاستفادة من تلك الروح والطاقة التي ميزت ذلك الجيل الذي كان مندمجا في قضية الوطن ومصير الأمة. إن العناية بالتعليم ونشر العلم ومضاعفة عدد المتعلمين بمئات الأضعاف عما كانت عليه إعدادهم أثناء ثورة التحرير لا يكفي لتحقيق نفس الأثر والوصول الى نفس النتائج التي حققها السابقون إذا لم تشع في نفوس وعقول هذه الأجيال المتعلمة الزاحفة أنوار من أبائهم السابقين.
بوتفليقة يدعوا الجيل الجديد من الطلبة لترميم المفاسد والاعطاب
وبعد الانتهاء من الدرس الأول ، عاد رئيس الجمهورية ، ليحث إن الأجيال الجديدة أيضا للاتزان بمهامهم الوطنية وواجباتهم المصيرية وهي مطالبة بانجاز رقي وتقدم المجتمع بإحداث حركية التغيير وصناعة البيئة المثالية الصالحة لاحتضان هذا التقدم ودفعه الى الأمام.
وهي الى جانب ذلك مطالبة بالمساهمة في تحسين ظروف الحياة وترميم ما يظهر من شروخ ومعالجة ما يعترضها من مفاسد وأعطاب ومحاربة كل مظاهر السلبية والركود والجمود.
وقبل هذا وذاك هي مطالبة بأن تواكب النبض السريع والتجدد المذهل الذي يجري في العالم ومطالبة بأن تؤمن لها الموقع المشارك في ديناميكية التغيير الذي يفترض فيه التحكم الجيد في الوسائل المادية وغير المادية المقحمة في عملية التغيير هذه واجبات وطنية تنتظرها الأمة من أبنائها المتعلمين.
والثابت إن جوانب من وجوه الوفاء بهذه الواجبات متعلقة بالروح الوطنية التي لا ينبغي أن تبقى شعارا مرفوعا بل عليها أن تتحول الى واقع ملموس مساهمة وتنفيذا شأنها في ذلك شأن الانجازات العظيمة التي صنعها طلبة الجزائر في 19 ماي 1956.
إن نخبة الأمس بطلائعها المؤمنة بحق أمتها في الحرية والكرامة والسيادة والتقدم يجب أن تكون مثالا لنخب اليوم وقدوة لها تستلهم منها الوطنية الصادقة ونكران الذات والتضحية وحسن التدبير وان تضيف إليها ما يعمق الدراية بقضاياها وواجباتها المعاصرة وأن تطور أساليبها وأدواتها في فهم المشكلات المختلفة وتقديم الحلول المناسبة لها.
وبهذا تكون على القدر المطلوب من الوفاء الى أرواح وتضحيات الآباء والأجداد. فالأمل كل الأمل أن يحرص الأبناء على إرواء شجرة الوفاء بعرق الجهد والعطاء والتضحية.